جفرا نيوز -
جفرا نيوز- عرفت اللقاحات بأهميتها على مدى التاريخ في حماية البشر من الأوبئة والأمراض ويعود الفضل إلى الطبيب إدوارد جنر الذي إكتشف لقاح الجدري في وقت كانت تنتشر كوباء فتاك وأدت إلى وفاة أكثر من نصف مليار شخص في القرن العشرين ، وفي كل أزمة غير إعتيادية على البشر لا بد أن يكون الحل أيضاً خارجا عن المألوف، فمن كان يعلم إن المستخلص الذي أخذه جنر من بثور إحدى العاملات في حلب البقر والتي لم يظهرعليها أعراض الجدري وحقنه في الطفل جيمس فيبس ذي الثماني سنوات والذي يعتبر أول تجربة سريرية في التاريخ شاءت أن تحميه من المرض وأن تحقن ملايين الأرواح وبدأت معها ثورة المدرسة الكلاسيكية في اللقاحات التي تعمل على تدريب الجسم في مقاومة المرض من خلال استفزاز جهازه المناعي للتعرف على مسبب المرض وتذكره ومن ثم إنتاج أجسام مضادة كافية للتخلص منه.
والآن مع تعرض البشر لجائحة كورونا والتي أدت إلى وفاة أكثر من مليون إنسان في هذا العالم وأرهقت النظام الصحي والاقتصادي في العالم لذا كان لا بد من إيجاد حل لهذه الأزمة ، وبدأت عدة مدارس للقاحات تطبيق تقنياتها لمواجهة هذه الجائحة فحتى هذه اللحظة نقلا عن نيويورك تايمز فهناك 54 لقاح في التجارب السريرية و 87 لقاح في التجارب قبل السريرية وكل هذه اللقاحات تتبع عدة مدارس وهي :
ومن بين هذه المدارس تقدمت لقاحات RNA بنتائج أبهرت العالم وفي وقت قياسي وهذا مما زاد الحماس في قطاعات بحثية كثيرة تعرف نجاعة هذه التقنية وتسعى لإستخدامها في علاج الكثير من الأمراض المستعصية ، ولكن بالمقابل أثارت هذه النتائج العديد من الشكوك وعلامات الإستفهام والخوف من دخول مادة جينية إلى جسم الإنسان مع عدم وجود لقاحات سابقة لذات التقنية تعطي الطمأنينة.
لقاح RNA ليس جديداً منذ أكثر من عشرين عام جاءت فكرة إستخدام تقنية mRNA في لقاح يحفز خلايا الجهاز المناعي لمقاومة الأمراض وخصوصا مرض السرطان ، وأعتبرت منذ ذلك الوقت من اللقاحات الواعدة من حيث فعاليتها وسرعة تطويرها وإنتاجها وكذلك أمان إستخدامها. في عام 1990 نجح الباحث إنغمار هور Ingmar Hoerr من جامعة توبينغن الألمانية في تحقيق ذلك على تجارب. الفئران بهدف تحقيز الجهاز المناعي ونشر بحثه في ذلك. ومن ذلك الحين تسعى هذه التقنية أن تجد طريقها في عالم العلاجات الطبية وخصوصا ما تتعرض له من تحديات مثل مشاكل أستقرار نقل جزيء RNA بسبب طبيعته البيولوجية غير المستقرة وسرعة تلاشيه بفعل أنزيمات RNAses والمتواجدة في كل مكان من حولنا ، ولكن مع تطور الهندسة الجينية تم الوصول إلى نواقل تضمن ثبات هذا الجزيء وكذلك تضمن دخوله إلى الهدف المناسب وحققت نتائج مميزة في البحوث الطبية الموجهة لإيجاد علاج للعديد من الأمرض والتي مازال بعضها ضمن الدراسات السريرية مثل بعض أنواع لمرض السرطان وكذلك الأمراض الفيروسية كالإيدز وداء الكلب وزيكا وأيبولا.
بصدور نتائج أولية مبشرة لعدة شركات بفعالية واعدة وآمنة للقاح mRNA تعالت الأصوات بخطورة إدخال مادة جينية إلى الجسم الإنسان بدون تجارب طويلة الأمد كما هو معتاد من الدراسات الدوائية وكذلك حداثة دخول هذه التقنية إلى سوق الدواء، ولكن الجائحة تحتاج إلى الخروج بحل يتناسب مع سرعة إنهاكها لحياة الناس والإقتصاد العالمي ، ومع وجود أبحاث سابقة تضمن سلامة هذا النوع من اللقاحات كذلك كما أسلفنا سابقا فهي لا تعتبر حديثة العهد ولكنها موجودة ولكن في كواليس المختبرات والأبحاث وشاءت جائحة كورونا أن تخرجها إلى العالم.
بيولوجيا الخلية والية عمل اللقاح لنتفق إن اللقاح هو وسيلة لتدريب الجهاز المناعي على مقاومة المرض، لكن تبقى طريقة إختيار نوع التدريب ومن أهمها الإصابة الطبيعية بالفيروس المكون من كبسولة دهنية بروتينية يحيط فيها تاج من البروتينات ويحمي في داخله مادته الوراثية المكونه من RNA وبهذا البروتينات التاجية تسهل إرتباط الفيروس بالخلية التنفسية الهدف وحقن مادته الوراثية في سيتوبلازم الخلية ومنها تجنيد كل ألياتها لنسخ هذا الفيروس إلى مئات النسخ وإعلان بداية الحرب مع الجهاز المناعي للمقاومة الفيروس بشكل غير متخصص لإنه جسم غريب جديد لم يسبق أن كون عنه ذاكرة .
في حالة اللقاح لن تحتاج العملية إلى إدخال الفيروس كاملا ، بل سلسلة صغيرة من القواعد النيتروجينية تحمل وصفة تركيبة إحدى بروتينات التاج الفيروسي وكأنها تحاكي الفيروس ، فجزء من الفيروس المسبب المرض كافي لأن يكون جسم غريب يستفزالجهاز المناعي لتكوين أجسام مضادة لمقاومته.
ولكن كيف ستتعامل هذه (السلسلة ) المادة الوراثية الغريبة على مادتنا الوراثية RNA وأليس من الممكن أن تتحد معها وتؤدي إلى طفرات قد تؤدي إلى مخاطر صحية ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نتعرف على الخلية بمكوناتها الرئيسية:
الغشاء الخلوي المحيط بالسيتوبلازم الملىء بالعضيات الخلوية المهمة مثل الميتوكندريا والرايبوسومات وأجسام جولجي وكذلك النواة التي تحمي مادتنا الوراثية ، ففي الحالة الطبيعية لنشاطات الخلية مع متطلبات الجسم المختلفة فهي تقوم بإنتاج أنزيمات وبروتينات مهمة مثل هرمونات النمو والأنسولين ، بالتالي الأمر يبدأ من النواة بإحداث نسخة لإنتاج كميات معينة من الهرمون المطلوب من خلال تحفيز الجين الواقع ضمن سلسلة المادة الوراثية الخاصة بنا ومن هنا تخرج نسخة الـ RNA عبر نواقل نووية من النواة إلى السيتوبلازم ليتم ترجمتها إلي البروتين ( الهرمون ) المطلوب بفعل الرايبوسومات التي تقرأ التعليمات على سلسلة RNA وتبدأ التصنيع ومن ثم النواقل الخلوية تتكفل بنقل هذه البروتينات إلى خارج الخلية لتنفيد المهمات المطلوبة منها.
هذه الميكانيكية الأساسية في الخلية للتعامل مع RNA أي أن هذه السلسلة التي تحمل وصفة إنتاج البروتينات عملها في السيتوبلازم فقط حيث الإمكانيات والمواد اللازمة هناك لتنفيذ الوصفة أي ليس لها أي تأثير على النواة بمجرد خروجها منها، فهي رحلة باتجاه واحد فقط.
وهنا جاءت فكرة محاكاة هذه العملية باستخدام اللقاح ولكن بدون الحاجة إلى نواة الخلية لتنفيذ أمر الوصفة بل إن RNA بل بإستخدام تقنية
in-vitro transcription
بحيث يكون جاهزا لينقل إلى سيتوبلازم الخلية باستخدام نواقل معينة مقابل أن توفر له إمكانيات نسخه إلى بروتينات.
ولكن ما الذي يضمن من أن لا يرتبط هذا الجزيء الفيروسي الغريب مع أحد الجزيئات الأخرى في السيتوبلازم؟
مع تطور تقنية لقاحات RNA منذ عشرين عام سعى العلماء بالإهتمام بهذا الجزىء من تصميم السلسلة إلى آلية النقل وكذلك حمايته بسبب صفاته غير المستقرة ، فالسلسلة ستكون مجهزة بجزء حماية لها عند دخولها السيتوبلازم بحيث يضمن لها عدم هضمها من الأنزيمات الهاضمة وأيضا يمنعها من الأرتباط بأي جزيء آخر بالخلية أو أي تفاعلات جينية أخرى ويحفز عملية النسخ ، وهذه الجزيء المهم من تركيبة RNA يعرف ب . 5’Cap وبالتالي يضمن هذا التصميم أول إجراءات الأمان المهمة لعدم ارتباطه بأي مكون وراثي داخل الخلية وكذلك استقراره حتي لا يتم هضمه قبل تنفيذ وصفة إنتاج جزء من بروتين الفيروس باستخدام الرايبوسومات.
ولكن مازال هناك تحدي أخر يواجه دخول هذا RNA الخاص باللقاح إلى الخلية فمن المعروف الغشاء البلازمي بطبيعته المعقدة التي لا تسمح بسهول دخول أي جسم غريب إلا بوجود مستقبل يسهل له الدخول، فمثلا فيروس كورونا يحتاج إلى تصريح إرتباط مع ACE2 ليدخل إلى الخلية عنوة وينفذ مخطط نسخ نفسه إلى مئات النسخ ، لكن RNA في اللقاح عاري من الكبسولة البروتينية الدهنية التي تعطي تسهيلات الارتباط وبالإضافة إن طبيعة هذا RNA لا تسمح له باقتحام الغشاء الخلوي وخصوصا مع شحنته السالبة (PO₄³⁻) الموجودة في هيكله الرايبوزي والتي لا تتطابق كذلك مع شحنات الدهون المفسفرة للغشاء الخلوي المزدوج!
أذا لا بد من محاكاة هذا التركيب ليضمن حماية RNA أثناء عملية النقل ، وكذلك ضمان دخول سليم إلى سيتوبلازم الخلية وهنا لا بد من الاستعانة بتقنيات أخرى مثل النانو تكنولوجي حيث من خلالها تم تصميم نواقل دهنية متناهية الصغر وبالإضافة إنها تحمل إشارة موجهة بحيث لا ترتبط إلا بنوع معين من الخلايا، وفي حالة لقاحات RNA ترتبط بخلايا من الجهاز المناعية إما التائية المساعدة أو خلايا تعرف بالمتغصنة وظيفتها عرض المستضدات أو الأنتيجينات تسمي بـ Dendritic cell وهكذا عندما يحقن اللقاح تنتقل هذه النواقل الدهنية لترتبط بالخلايا الخاصة لها ويبدأ نسخ جزيء البروتين الخاص بفيروس كورونا ليظهر على شكل مستضدات على سطح الخلية مستفزا بذلك الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة جاهزة للتخلص من الفيروس عند دخوله وبالتالي توفر حماية للجسم.
ما هو مصير هذا RNA في الخلية ، هل سيبقى ينسخ البروتينات ؟ طبيعة RNA البيولوجية الطبيعية غير مستقرة وذا عمر قصير يترواح من دقائق لعدة ساعات وبالتالي انتهاء تنفيذ التعليمات من قبل الرايبوسومات القارئة تنتهي وظيفة هذا RNA وبالتالي نهاية حياته ويتحلل بفعل أنزيمات الخلية الهاضمة.
تحديات أخرى التحدي الكبير الذي ستواجه هذه اللقاحات هو الحفاظ علي استقرار RNA وذلك من خلال التبريد العالي الذي يصل إلى ثمانين تحت الصفر ، وبالتالي مثل هذه الظروف تحتاج أن تكون متاحة لضمان فعالية اللقاح ، أما التحدي الآخر فهو الفعالية على المدى الطويل وهذا لا يظهر إلا بعد سنوات من الاستخدام من فئة كبيرة من الأفراد من خلال ممكن الحكم على نجاح هذه اللقاحات ليس في كسر حلقة إنتشار فيروس كورونا وإنما عدم إحداث أعراض جانبية نادرة لم تظهر في عينات الدراسة السريرية الأولى والثانية والثالثة لمختلف الشركات المنتجة لمثل هذا النوع من اللقاحات.