جفرا نيوز -
جفرا نيوز بقلم رشاد ابو داود
أول مرة، أية أول مرة، في حياة الانسان لا ينساها. أول مدرسة، أول زيارة، أول حب.
وصلت الكويت أول مرة بالسيارة عن طريق العراق. لم يكن طريق السعودية قد أنشىء بعد، كان ذلك صيف العام 1975. بالنسبة لخريج جامعي جديد ومن مدينة الزرقاء فان رؤية مدن وقرى الطريق الممتد مسافة حوالي ألفي كلم أمر مدهش.
لكنها أقل دهشة من « رجال تحت الشمس « الذين وصف حالتهم غسان كنفاني. هؤلاء كانوا في صهريج وأنت في سيارة أو باص يتوقف عند كل محطة للتزود بالوقود. في الرطبة، الرمادي، البصرة وما بينها الى أن تصل نقطة حدود صفوان الكويتية. تسلم «كرت الزيارة» أو عقد العمل مع جواز سفرك، تنتظر ربما ساعة أو ساعتين وربما اقل أو أكثر، حسب زحمة القادمين والمغادرين.
مع دخولك الأراضي الكويتية تتعرض لدرجة حرارة مرتفعة لم تعهدها من قبل. تمسح عرقك، تشرب الكثير من الماء والعصائر و..تحاول أن تنام. النوم ليس سهلاً في مقعد خاصة عندما يكون مقعد سيارة أو باص. لكن تعب ثماني عشرة ساعة يخدر جسدك فتنام دون أن تدري.
في المرقاب كانت المحطة الأخيرة للتكسيات والباصات. ولأن موعد الوصول كان صعب التحديد والموبايلات لم تكن منتشرة فقد كان بيت أحد أقاربنا قريبا من الموقف.تسأل عنه، يدلونك عليه، يستقبلك وأهله برحابة صدر ويقدمون لك الغداء او العشاء ثم يتصلون عبر الهاتف العادي بابن عمك الذي أرسل لك «كرت الزيارة». يحضر من منطقة حولي، يعانقك ويصحبك الى بيته. تعانقك أيضاً عمتك، زوجته وأبناؤهما. في المساء يأتي ابناء عمومتك، وكانوا كثرا في الكويت.
في العام 1948 وقبله كانت الكويت، شأنها شأن فلسطين ومعظم الدول العربية، خاضعة للانتداب البريطاني. وعند النكبة واقامة الكيان الاسرائيلي على أرض فلسطين وتهجير أهلها، استقبلت الكويت عدداً كبيراً من المهجرين. وكان أغلبهم من المهنيين والمعلمين والمهندسين والجامعيين. أسهموا في بناء الدولة ومؤسساتها واقتصادها.
لاقى الفلسطينيون في الكويت احتراماً وتقديراً بسبب جديتهم في العمل وأمانتهم واخلاصهم. وثمة قول كان متداولاً بين أرباب العمل الكويتيين « اذا كنت تريد من يطور ويعلم ويقول لك هذا صح وهذا خطأ، وتربح شركتك، فعليك بالفلسطيني شرط أن تحترم كرامته. وان أردت من لا يقول لك إلا فقط حاضر ويحمل لك شنطة السامسونيات فعليك بغيره، لكنك لن تربح».
في اليوم التالي لوصولي اصطحبني ابن عمي الى وزارة التربية. استملنا اجراءات التعيين كمدرس لغة انجليزية للمرحلة المتوسطة. وكان تعييني في مدرسة بمدينة الرقة التي تبعد حوالي خمسين كيلو متراً عن الكويت العاصمة. مدينة حديثة بنتها الحكومة لذوي الدخل المحدود من الكويتيين ونحن أول من درس فيها.
المدرسون أغلبهم من الزملاء المصريين والفلسطينيين و الاردنيين و السوريين. وهذه أول تجربة لي بالعمل مع زملاء عرب من جنسيات مختلفة تلتها نفس التجربة عندما تركت التدريس الى عالم الصحافة الذي أتاح لي العمل مع جنسيات أخرى، لبنانية وسودانية وتونسية وحتى موريتانية.
الكويت سبقت دولا خليجية أخرى في مجال التعليم. فقد كانت أول بعثة تعليمية من الفلسطينيين أوائل الثلاثينات. وأسهمت في رفد التعليم في دول خليجية بارسال كتب مدرسية مما كانت تدرس في مدارسها وفتحت مدارس في الامارات والبحرين وربما غيرهما. وفيها تأسست جامعة من أوائل جامعات الخليج ضمت خيرة من الأساتذة العرب وطلبة من مختلف الجنسيات.
الكويت منذ ما قبل استقلالها عن بريطانيا العام 1961 عروبية القلب و القالب والتوجه والمنهج. وعند الاستقلال أرست أسس الديمقراطية بدستور ومجلس نواب حر يمارس الرقابة الفعلية على السلطة التنفيذية و لم يزل حتى الآن يسقط حكومات ويمنح ثقة حقيقية لحكومات.
في مدينة الرقة عملت سنة دراسية بجد ولم يزل بعض من الطلبة الذين درستهم يتذكرون «الأستاذ» الشاب الذي كان قاسياً جداً حين يتطلب الموقف القسوة و صديقاً لهم عندما ينتهي وقت الدرس.
وتلك حكاية أخرى...