النسخة الكاملة

أبو محيو..ختيار القصَاع !

الخميس-2023-06-26 10:09 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رشاد ابو داود

لم يكن صعباً أن تجد سكناً في أي حي من دمشق وفي أي وقت من السنة. أصحاب الشقق يفضلون تأجير الطلبة لأن أغلبهم يمضون تسعة أشهر دراسية ويغادرون. ومن العائلات المحتاجة من تؤجر غرفة مفروشة من البيت لطالبين. تعاملهم كأبنائها، ومع الوقت يصبحون جزءاً من العائلة.

في حي القصاع سكنا أربعة. نشأت وأنا وعبد الحق أبو الشيخ وسبع النمور – هكذا اسمه الأول سبع وعائلته النمور – كان أبوه لحاماً في شارع شاكر قرب مفرق شارع السعادة في الزرقاء. بعد تخرجه من قسم اللغة الانجليزية عمل في السعودية سنة وفي طريق عودته في العطلة الصيفية توفي في حادث سيارة، رحمه الله.

حزنا على سبع كثيراً. فقد كان وسيماً ذا بنية قوية وغالباً ما كنا نصحو على صوت تقطيع حطب الشجر بالبلطة ونعرف انه السبع. خاصة أنه كان « يفش غله « في التقطيع عندما يغضب ولأننا كنا نستخدم الحطب في الصوبة الوحيدة التي كانت في البيت القديم.

ليس البيت الذي يقع خلف تربة «مقبرة» دحدح موقف قزازين وحده القديم. فقد كان صاحب البيت ابو محيو أيضاً ختيارا ربما قارب التسعين لكن مظهره يوحي بأنه في الستين. كل صباح كان يدخل باب البيت الخارجي، يسقي ويقلم شجر التوت والمشمش والبرقوق التي كانت في حوش البيت. متوسط القامة بلحية خفيفة وشروال اسود داخله قميص واسع مقلم وطاقية بيضاء.

كنا نحب حديث ابو محيو، خاصة أنه كان من جيل سفربرلك في العهد العثماني وشهد الحرب العالمية الأولى والثانية والاستعمار الفرنسي لسوريا وطرد آخر جندي فرنسي في 17 نيسان 1946 وهو ما يعرف بيوم الجلاء.

حدثنا عن مشاركته في الحرب الأولى مجبراً بسبب فرمان « سفر برلك « ويعني النفير والتاهب للحرب الذي أصدره السلطان محمد رشاد عام 1914 بتجنيد كافة شبان الولايات العثمانية وامتد حتى 1918.

كان يحدثنا عن ذلك الزمن كأنه الامس القريب بل اليوم فيما كانت تجاعيد السنين محفورة على وجهه البشوش. فالبسمة قد تخفي التجاعيد عن الوجوه للحظة فعمر البسمة قصير. المكياج يخفيها مدة أطول لكنه أيضاً يزول و..تعود تجاعيد الزمن.

لم يكن أبو محيو يعير أهمية للأرقام، وربما نسيها. في احدى حكاياته المكررة التي لم نكن نمل من سماعها قال : كان لوالدي- والده - بيت في ساروجه مؤجر لرجل حمصي يسكنه وعائلته وأولاده الثلاثة وعائلاتهم. زماااان كانت البيوت واسعة وأهل الحارة عيلة واحدة. ما كان يصير «تلاتين خمسة وتلاتين» الشهر الا ييجي يدفع الايجار لأبي «. عند «خمسة وتلاتين الشهر « كنا نضحك خفية فيظن أننا نضحك للحكاية !.

من القصاع انتقلنا الى حي ركن الدين. كان نشأت قد تخرج من كلية الاقتصاد والتحق ملازماً في سلاح الجو، والسبع توفي الى رحمة الله وبقينا أنا وعبد الحق وخالد بدوي وغسان ذكر الله.

مقابل البناية التي سكنا فيها وعندما نخرج صباحاً لانتظار الباص، كنا غالباً ما نشاهد رجلاً ذا هيبة ستالينية وخلفه رجلان بدا أنهما حارسان فتمر سيارة سوداء يستقلونها. عرفنا لاحقاً أنه خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري.

في آخر الشارع المحاذي للشارع الرئيسي شمالاً باتجاه برزة كان ثمة «كشك « بحارس أمام بناية، وعندما ترى مثل هذا الكشك والحارس اعلم أن شخصية مهمة تسكن هناك. ومن باب الفضول سألنا فقيل لنا هنا يسكن ابو مازن محمود عباس. ولأننا، كما أسلفت سابقاً لم نكن هواة سياسة بل دراسة، لم يكن يهمنا لا عباس ولا بكداش.

بعد موقفين للباص الذي كنا نستقله من البيت الى الجامعة، كنا نسمع الكنترول ينادي « الشيخ محي الدين «. علمنا لاحقاً أنه مقام الشيخ محي الدين بن عربي شيخ المتصوفين.
وتلك حكاية أخرى...
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير