جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رشاد ابو داود
كيف حدث أن تكون أم سارة التي سكنا عندها في شقتها المكونة من غرفتين وشبه صالون عبارة عن ممر واسع قليلاً الى باقي السطح شامية وزوجها المتوفى جزائري؟.
بدأت هجرة الجزائريين مع عائلاتهم الى بلاد الشام والمشرق في أواخر القرن التاسع عشر مع سقوط البلد تحت الاحتلال الفرنسي. منحتهم الامبراطورية العثمانية جنسيات وأراضي زراعية في ضواحي دمشق، ولأصحاب الحرف منهم في قرى الجليل وحلب وبيروت وصيدا. وكان زعيمهم الأمير عبد القادر الجزائري الذي ساهم مع الكثير منهم في الثورة السورية على الاستعمار الفرنسي. اندمجوا في أهل الأماكن التي أقاموا فيها واصبح أبناؤهم وأحفادهم من نسيج تلك المجتمعات، عادات ولهجات وتقاليد.
وعندما قال لنا الزميل المخرج المرحوم حمزة باديس أنه جزائري وله أهل هناك وكان جده من أهم علماء الدين في قسنطينة. استغرب الزملاء في «الدستور» وقالوا له : كيف ولهجتك مقدسية «قُح» ؟ قال : أمي من القدس وأنجبتني هناك. كان جدي من الجزائريين الذين هاجروا الى بلاد الشام مع الأمير عبد القادر الجزائري ابان الحكم العثماني. حينها، تذكرت أم سارة ولم أستغرب.
كانت أم سارة تعاملنا كأبناء لها لا كمستأجرين. ونحن نعتبرها أماً ثانية. في الرابعة عصر كل يوم كانت تشطف المساحة الصغيرة المتبقية من السطح المطل على معظم دمشق وتسقي الورود والنعنع المزروعة في تنكات سمنة وزيت قديمة ثم، تحضر الشاي في ابريق صغير و..تنادي :
رشاااد، نشأااات، يللا تعوا اشربوا شاي.الساعة صارت أربعة.
لكن لماذا الرابعة تحديداً ؟ انه موعد ساعة أم كلثوم من اذاعة «اسرائيل». وقد فسر بعض المتفذلكين تعمد بث اذاعة العدو لأم كلثوم بأنه حرب نفسية حتى تخدر وتلهي العرب عن تحرير فلسطين ! لكأن العرب كان ينقصهم تخدير يمارسه الاعلام الفاشل وسياسة الكذب المتجهم وشعارات « تجوع يا سمك البحر» و»سنرمي اسرائيل في البحر». ولجهلنا أو تجهيلنا كنا نسترخي ونصدق !.
نشرب الشاي وعند الخامسة تنتهي أم كلثوم وتقول لنا أم سارة بنبرة الأم القاسية « يللا أوموا ادرسوا، أنا طالعة عند بيت أخي وراجعة الساعة تمانية بدي الائيكم مخلصين دراسة «.
وبالفعل نقوم كالتلاميذ النجيبين الى كتبنا.
كان المشي في أحياء دمشق متعة. وكثيراً ما كنا نذهب الى الجامعة مشياً على الأقدام. ننزل الى الجسر الأبيض مروراً بأبو رمانة ثم جسر فكتوريا على بردى أو مروراً بدوار عرنوس فالصالحية فالشعلان حيث أول بيت سكناه في حبوبي ثالث المجاور لحديقة السبكي ونزولاً الى متحف العظم فالجامعة حيث نقطة التقاء وانطلاق الطلبة الى كلياتهم بعد افطار بأقل من ليرة.
المسافة ليست قصيرة لكننا لم نكن نشعر بها أولاً لأننا كنا شباب وثانياً لأن الطرق كانت مزينة بالياسمين وبضحكات الناس ونادراً ما كنت ترى أحداً متجهماً. كانوا قنوعين يأخذون الحياة ببساطة. ألم يقال أن «القناعة كنز لا يفنى « ؟
كانت أم سارة تربي طفلة جميلة شقراء اسمها هالة. تعلقنا بها وتعلقت بنا وكنت أحياناً أصطحبها معي الى الجامعة فتفرح بها الزميلات ويداعبنها. بالتأكيد ليست ابنة أم سارة التي كانت حنطية فيما هالة بيضاء. ربما تبنتها وربما ابنة ابنتها التي تعمل في بلد آخر. أم سارة لم تفصح لنا ونحن لم نلح بالسؤال.
هالة الآن ربما في الخمسين وأم سارة ربما توفيت. لا ننساها أنا ونشأت فقد كانت فعلاً أمنا الثانية. حاولنا أن نرد لها بعض الفضل لكننا عندما ذهبنا على انفراد قال لنا الجيران أنها رحلت. و..انقطعت عنا أخبارها لكن فضلها باق مدى الحياة.
من المهاجرين سكنا في القصاع وكنا أربعة، نشأت والمرحوم سبع النمور وعبد الحق ابو الشيخ وخالد. طابق أرضي حوله مساحة مزروعة بأشجار قديمة معمرة لرجل مسن، شامي عتيق يرتدي الشروال الأسود والقميص الفضفاض والطاقية.كان يأتي الينا يحدثنا عن الشام زمان وعن سفربرلك.
وتلك حكاية أخرى....