النسخة الكاملة

باص أبو الياس الزرقاوي

الخميس-2023-02-27 08:35 am
جفرا نيوز - جفرا نيوز

رشاد أبو داود

أتعمد أحياناً أن أسلك طريق الزرقاء عمان القديم. فهو شاهد على طفولتي وبداية شبابي. ولم يكن طريق الأوتوستراد قد أنشىْ أو خطط له أو حتى مجرد فكرة. كانت المنطقة التي أقيم فيها مجرد صحراء لا مجال للمرور فيها. أما الطريق القديم فكان يعمل عليه باصات أقل من أصابع اليد. الموقف الرئيسي أمام صيدلية الشعب أول شارع شاكر الذي يبدأ من وسط شارع الجيش قريباً من المخيم ويخترق المدينة الصبية الصغيرة حتى يصل الى أول الغويرية. وكان يشكل تقاطعات مع الشوارع الرئيسية وأكثرها أهمية وازدحاماً شارع السعادة عند تقاطع صيدلية مطالقة الأقدم في الزرقاء.

لم يكن موقفاً بالمعنى الحالي. فقد كان يتسع لباص واحد أمام صيدلية ومحل مجوهرات اسعيفان في الزاوية المقابلة لمطعم السلام. طبعاً مطعم فول و حمص وفلافل وساندويشات مع مقالي أو بدونها بقرشين ونصف. يتحرك الباص عندما يصل الآخر القادم من عمان. ومع أنه كان يحتل نصف الشارع الضيق الا أنه لم يكن يتسبب في أزمة مرورية أو حتى شكاوى من الناس. فلم يكن ثمة سيارات تمر من هناك ولا غير هناك في المدينة الا عدداً قليلاً جداً.

الكل كان يمشي. وربما لذلك كان الكل بصحة جيدة و لم يكن ثمة أمراض لا مزمنة ولا مستعصية. مستشفى الحاووز وعدد قليل من عيادات الأطباء و..الميرمية و الجعدة و والبابونج وحصى البان واليانسون، كانت تكفي لعلاج أي مرض !

ربما يقول قائل أن عدد السكان كان أقل بكثير من اليوم و أن الطب لم يكن متقدماً كما الحال الآن وكان عدد الوفيات يتناسب مع عدد السكان لكن لم يكن في تلك الأيام وفيات بالجملة ولا وحشا سرطانيا يفتك بالبشر ولا قمحا معدلا جينياً يضاف اليه «محسنات» تشوه وجه الرغيف الأسمر الذي كانت رائحته تشم عن بعد، فاتحة الشهية لالتهامه مع حبة بندورة «تُفغم فغماً» بدون شوكة و سكين وخيارة بدون تقطيع شرائح أو ما تيسر من حبات زيتون وكله من خير الأرض.

ما علينا ! تعددت الأسباب والموت واحد.

يصعد الركاب الى الباص، من يصعد أولاً «يحتل» المقعد الأمامي –ربما ليصل قبل الآخرين -. تمر عشر دقائق، ربع ساعة. تتصاعد الأصوات « يللا يا ابو الياس تحرك»، ولا كأن أبو الياس هون. يعج على سيجارته، ينفث دخانها في الباص. تتصاعد الأصوات أكثر. يلتفت الى الركاب والسيجارة في طرف فمه : ما بمشي ليمتلىء الباص. ولا يتحرك الا حين يعود اليه الكنترول ومعه « الغلة» وما تبقى من بوليتات «تذاكر» كانت ورقة صغيرة مطبوعاً عليها ثمن التذكرة واشياء أخرى اتذكر منها «الزرقاء-عمان وبالعكس «. وكان الآباء يعطوننا اياها نحن الأطفال فنفرح بلونها و بالحروف المطبوعة.

أبو الياس بوجهه الأبيض المحمر بفعل الشمس وشعره الأشيب أشهر سائقي تلك الباصات. كان حريصاً على مصلحة الركاب. وكلما كان يصعد راكب كان ينبهه بصوته الخشن « أوع الجووورة». والجورة كانت قاعدة «الجير» محرك السرعة الطويل وقد اهترى جزء منها واصبحت تتسع لقدم راكب مستعجل. لكن ابو الياس لم يكن يستعجل الوصول الى عمان.

فعند عوجان كان يوقف الباص ليسلم على صديق له، وفي آخر طلعة الرصيفة يقف مرة ثانية ليلف سيجارة ويشعلها بقداحته التي تعبأ بالكاز فيما الركاب يتذمرون. وعند الوصول الى عمان..يهنىء الركاب بعضهم بالوصول بالسلامة !

كانت الباصات بطيئة بدون «الباص الصريع» والطرق قليلة ونقطة الوصول معروفة. ليست كما اليوم، المواصلات سريعة، الطرق كثيرة، لكن.. لا أحد يعرف « لوين رايحين « !!