النسخة الكاملة

بمناسبة مرور 150 عاما على توحيد بودابست مدينة التراث الحضاري

الخميس-2023-01-02 10:59 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز  سالم قبيلات 
يحتفل المجريون هذا العام بمرور الذكرى المائة والخمسين على توحيد مدينة بودابست، عاصمة المجر، وهي واحدة من أجمل العواصم في العالم، مدينة يعشقها أهلها، ومبهرة لزوارها, ليس فقط لجمال الطبيعة فيها فحسب، ولكن أيضًا للتحف المعمارية التي تراكمت فيها عبر الأجيال.
 واليوم هي أكبر مدن المجر وتعتبر تاسع أكبر مدينة في الإتحاد الأوروبي، فلقد أدى قرار توحيد المدينتين "بودا" و "بست" في عم (1873) إلى إنشاء العديد من المباني المذهلة على ضفتي نهر الدانوب، شكلت بجمالهما الرائع، الوجه الجديد المبهر لمدينة بودابست التي نشأت من اندماج المدينتين اللتين كانتا بملامح ثقافية ونمط عيش مختلفين، يفصلهما عن بعض نهر الدانوب.
ويذكر إن كلمة بودابست استخدمت لأول مرة في عام (1831) من قبل الزعيم المجري استفان سيشيني الذي كان احد الداعيين إلى إنشاء مدينة "بودابست" كعاصمة قوية موحدة من المدينتين. وقد كانت إحدى لمساته المؤثرة على واقع المدينة الجديدة والتي ما تزال جميلة, هي بناء جسر تشين على نفقته الخاصة، لربط المدينتين- "بودا" مع "بست"- ببعض، لتكونا مدينة واحدة، وحاليا يعد الجسر أحد أشهر المعالم التاريخية التراثية في مدينة بودابست.
وتشير الروايات إلى إن السبب الرئيسي لقرار الكونت سيشيني بالتبرع لبناء الجسر، هي حادثة محزنة واجهته، حينما أراد السفر إلى النمسا من اجل حضور تشييع جنازة والده، حيث لم يتمكن حينها من عبور النهر إلى الضفة الأخرى، بسبب الظروف الجوية، ومن المفارقات أيضا إن الكونت المتبرع لم يستطع مشاهدة هذا الجسر عندما اكتمل البناء، بسبب مرض الخرف الذي داهمه.
ومن الصدف أيضا إن تمت المرحلة الأخيرة من البناء، خلال ثورة 1848 حرب الاستقلال، حيث كان جنود جيش الاستقلال المجري من أوائل الذين عبروا الجسر، ولذلك حاول النمساويون تفجير الجسر، ولحسن الحظ لم تنفجر العبوات الناسفة، ولكن لسوء الحظ، بعد مائة عام نجح الجيش الألمان في تدميره أثناء حصار بودابست عام (1945)، وحتى ذلك الوقت كان هذا الجسر المعلق بالسلسلة الحديدية يعد ثاني أكبر جسر في العالم.
وفي شان يكمل مسار الجسر، ففي (1856) بدأت عملية حفر نفق يمر من أسفل تل القلعة إلى الجانب الآخر من التل، تم افتتاحه أمام حركة السير في (1857). كما تلاه تبنى السياسيون المجريون في عام 1849 قانون توحيد المدن.
لقد ساهمت هذه الخطوات الجريئة في زيادة عدد سكان ( يودا وبست) بشكل كبير، جزئيًا بسبب التكاثر الطبيعي، ولكن بوتيرة أكثر بسبب تأثير حركة الهجرة من مدن الإمبراطورية الأخرى، فبينما كان يعيش (107000) شخص في مجمع المدينة في عام (1840)، قفز هذا العدد في عام (1880) إلى (356000) نسمة. وقد ساعد ذلك التطوير السريع على انتشار التعليم، ففي عام (1868)، تم إنشاء، مجلس مدرسة مشترك موحد لمنطقتي (بست وبودا)، كما تم منح هاتين المدينتين وضعًا ضريبيا خاصًا يهما. 
كما أثارت الزيادة السكانية السريعة، العديد من المشاكل، على غرار تلك التي شهدتها المدن الغربية في القرن التاسع عشر، والتي أدرك قادتها أن التحضر العفوي يجب أن يظل تحت السيطرة عن طريق تدخل الدولة. ولذلك تم تبني هذا النموذج الإداري في المجر في عام (1869)، في عهد رئيس الوزراء اندراشي، الذي بدوره اقترح إنشاء مجلس الأشغال العامة (المترو بوليتان)، وكان الهدف منه دمج إدارة البنية التحتية للمدينة في مؤسسة واحدة.
وفي عام (1870)، تم إقرار قانون تشكيل وتنظيم السلطة التشريعية الحضرية للمدينة، وبموجب هذا القانون، تم توحيد شطري المدينة في سلطة تشريعية واحدة، اعتبارا من( 1873.1.1) حملت الاسم الجديد لها " بودابست"، وعلى أثره بدأت المدينة تتطور كما لم يحدث من قبل، حيث اجتذبت حشودًا كبيرة من داخل محافظات البلاد ومن خارجها أيضا، وشجع على انتقال العديد من الأشخاص من الأراضي الألمانية إلى المدينة، اندمجوا بسرعة في المجتمع المجري. 
وتشير البيانات، إلى انه ولغاية عام (1850) كان 37 في المائة فقط من سكان بودابست مجريين، ولكن بحلول عام (1880)، زادت هذه النسبة إلى 55 في المائة، حيث كان الألمان يشكلون الأغلبية. ولكن مع نهاية القرن التاسع عشر، تم تطوير تدريجي للهوية المجرية، لأن المهاجرون الأجانب رغبوا في أن يكونوا جزءا من نخبة النبلاء المجريين، بسبب نهضة التطور الصناعي فيها. 
وكان أيضا من تبعات عملية التوحيد، إن نمت المدينة اقتصاديا بشكل مطرد، وهو ما لم تتمكن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية من كسره، خاصة خلال عام (1872)، عندما اجتاح وباء الكوليرا البلاد، واقتصاديا في عام (1873) بسبب انهيار بورصة "فيينا"، التي أدت إلى انهيار النظام المصرفي الهنغاري أيضًا. 
ويذكر إن المدينة الحديثًة نجحت بالتغلب على العقبات بسهولة نسبيًا، حيث تمت السيطرة على الوباء عن طريق التطهير والحجر الصحي، وتمت عملية احتواء أزمة القطاع المالي من خلال إدخال استثمارات وشراكات من الأثرياء المجريين في قطاع الدولة.
 بعد تجاوز الأزمتين أصبحت العاصمة منطقة جغرافية جذابة للأثرياء الذين قاموا ببناء قصور فاخرة لهم في قسم Pest، وخاصة بعد سيطرتهم على شركة الجادة العقارية، وهي استثمار عام، كان يديره مجلس العاصمة للأشغال العامة، وقد توقف عن العمل خلال الأزمة المالية. 
وقد عم هذا التطور الحضري المدينة من خلال خطة شاملة، تم الإعلان عنها في عام (1870) أسفرت عن تصور للعاصمة، كهيكل جادة على أساس نماذج "فيينا" و"باريس"، بالإضافة إلى ذلك، نفذت الشركة بناء جريت بوليفارد وضفاف نهر الدانوب وتصاميم شبكة الصرف الصحي، وليس أخرها كان الانتهاء من انجاز مبنى عصر النهضة الجديد في عام (1873)، كما أصبحت (بست) المقر الرئيسي للعاصمة الموحدة، وتم انتخاب ممثلي المدينة أيضًا في نفس العام. 
 لقد دفعت عملية التوحيد، إلى ظهور مدينة عالمية جميلة في الريف الجميل على ضفتي نهر الدانوب، شهدت إنشاء أول أكاديمية لتدريب الضباط المجريين (أكاديمية لودوفيكا) في عام (1872)، تم بناء الأكاديمية من التبرعات العامة، وكان الهدف الرئيسي لهذه الأكاديمية، هو إعداد الشباب المجري بالعلوم العسكرية التي ستمكنهم من خدمة البلاد في الجيش النظامي، وكذلك الاستفادة منهم في حالة حدوث انتفاضة شعبية. حيث حصلت الأكاديمية على اسمها من الملكة ماريا لودوفيكا، زوجة الملك فيرينك الأول ملك المجر، التي تبرعت بسخاء لإنشاء الأكاديمية، بمبلغ كبير وقدره (50000) فورنت هنغاري.
وفي نفس الفترة، تم بناء مبنى البرلمان الهنغاري:( Országház)، ويعد المبنى الذي يقع على الضفة الشرقية لنهر الدانوب، مثالاً على العمارة من أسلوب عصر النهضة، بدأ ببنائه في عام (1880)، وتم الانتهاء منه بعد (24) عاماً، يبلغ ارتفاعه (314) قدماً ويبلغ طوله (880) قدماً، وأكتمل بنائه بشكل كامل في عام (1904)م، شارك في بنائه نحو (1000) شخص، وتم استخدام (40) مليون قالب طوب، ونصف مليون قطعة من الأحجار الكريمة و (88) رطلاً من الذهب، ما جعله أحد أجمل المباني البرلمانية في العالم. 
 وفي ذلك الوقت أيضا، تم تأسيس دار الأوبرا المجرية: (بالمجرية: Magyar Állami Operaház)، وهي دار أوبرا مبني على نمط عمارة عصر النهضة، بدأت أعمال تشييد الأوبرا عام (1875) بتمويل من مجلس مدينة بودابست ومن الإمبراطور النمساوي المجري (فرانتس يوزف الأول)، وقد فتحت الأوبرا أبوابها للعامة عام (1884). 
ويذكر إن مبنى الأوبرا خضع لعملية تجديد كبيرة خلال أواخر سبعينيات القرن العشرين، حيث تمت إعادة الافتتاح في عام (1984)، أي بعد مرور مئة عام على تاريخ الافتتاح الأول للأوبرا. وتعد دار أوبرا بودابست من بين الأفضل من ناحية جودة الصوتيات رغم حجمها وسعتها، كما أنها من بين أعرق دور الأوبرا في العالم، وتتسع قاعة العرض التي تشبه في شكلها حذوة الحصان إلى (1261) شخص.
كما شكل انطلاق أول ترام في مدينة بودابست في نهاية عام (1881)،إضافة جديدة للمدينة، حينما شاهد سكانها معجزة لم يسبق لها مثيل، عربة تتحرك من تلقاء نفسها، وتسير على القضبان، لا يجرها حصان أو قاطرة بخارية، فقد كانت هذه المعجزة، انطلاق أول ترام كهربائي في المدينة، يسير بسرعة 10 كيلومترات في الساعة. 
 وتلاه أيضا انطلاق معجزة أخرى، تمثلت بانطلاق مترو الأنفاق الذي ظهر كأول خط سكة حديد تحت الأرض في البر الرئيسي الأوروبي عام (1896)، استمر البناء فيه لسنوات طويلة، ولم يخلو من الصعوبات، فقد تم حفره بالمجارف والعدد اليدوية. 
وفي عام (1896) تم بناء ميدان الأبطال ( Hősök Tere)، تم إنشاء الميدان للاحتفال بالذكرى السنوية الألف لتأسيس دولة المجر، وكان أكثر ما يميز الساحة، هو النصب التذكاري للألفية، والذي يعد من أكبر وأكثر التماثيل المثيرة للإعجاب داخل المدينة، ويعتبر الميدان واحدًا من المعالم السياحة في هنغاريا الأكثر زيارةً.
ولا يقل شانا في الإبهار عن ما سبقه، بناء جسر مارغريت : (Margit híd) ، ثاني أقدم جسر في بودابست، وكان أسلوب بنائه على نمط العمارة الفرنسية الجديدة الباروكية. حيث استغرق البناء 4)) سنوات، واكتمل في عام (1876)، وتعد الأقواس الأنيقة للجسر إحدى جواهر بودابست.
وتلاه بناء جسر الحرية (Szabadsag híd)، الذي تم إنشاؤه عام (1896) لاستضافة معرض الألفية العالمي،  وتميز بصواريه الأربعة التي تجلس عليها تماثيل برونزية كبيرة لطائر يشبه الصقر، وهو طير مشهور في الأساطير المجرية القديمة. ولسوء الحظ تم تدميره خلال الحرب العالمية الثانية بعد تراجع القوات الألمانية، حيث كان أول جسر أعيد بناؤه بعد نهاية الحرب. 
وأيضا جسر إليزابيث (Erzsebet híd): اسم لإمبراطورة محبوبة في المجر، بدأ بناء الجسر في عام (1898) واكتمل بعد (5) سنوات، ومع الأسف تم تدمير هذا الهيكل الجميل بالكامل من قبل الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، لدرجة أنه لم يستعيد شكله السابق بعد الترميم، وقد تم ترميم الجسر بالكامل في وقت لاحق في عام (1964).
إن هذه الأماكن التراثية البديعة في مدينة بودابست لم تقتصر على انجازات الحركة العمرانية الكبيرة التي نمت بعد توحيد المدينة، وإنما كان الكثير منها موجود قبل عميلة التوحيد، والتي من أهمها قلعة بودا: وهي قلعة تاريخية ومجمع قصور للملوك المجريين، تم بناء القلعة في عام (1265), وهي أحد معالم بودابست التي تحظى بقيمة تاريخية، والتي تُعتبر من أروع النماذج المعمارية، ومن أشهر نقاط الجذب السياحي لمن يُفكر في الزيارة إلى بودابست، وفي عام (1987) أدرجت القلعة ضمن مواقع التراث العالمي. 
وكذلك مبنى كنيسة انتقال العذراء (Nagyboldogasszony-templom)‏ أو لاحقا كنيسة ماتياس (Mátyás-templom)‏، وهي كنيسة تقع في قلب منطقة قلعة بودا، وبحسب تقاليد الكنيسة يُعتقد أنها بُنيت في الأصل على الطراز الروماني في عام (1015). ولكن المبنى دُمر على يد المغول،وأعيد بناءه في نهاية القرن الثالث عشر، وفي القرن السادس عشر خلال الغزو العثماني، حُولت الكنيسة إلى مسجد وأُطلق عليه اسم بويوك (الكبير) أو سليمان خان جامع، وفي القرن التاسع عشر، سُميت بكنيسة ماتياس نسبةً للملك ماتياس.
وأيضا وجود جزيرة مارغريت (Margit-sziget)‏‏, وهي جزيرة تقع على منتصف نهر الدانوب في وسط مدينة بودابست، تغطيها الحدائق والمناظر الطبيعية، وهي منطقة ترفيهية شعبية، تحتوي على أطلال من القرون الوسطى ترمز إلى المكانة التاريخية لها. 
كما تشتهر بودابست بمجموعة مذهلة من حمامات السباحة، بدءًا من "حمامات جيليرت" (Gellert Baths) المتلألئة ومرورًا بمنتجع "سزيتشيني سبا" (Szechenyi Spa) الصحي الضخم المبني على الطراز البار وكي الحديث والذي يعود إلى عام (1913)، وصولاً إلى منتجع "روداس سبا" (Rudas Spa) الصحي، وهو حمام تركي يعود إلى القرن السادس عشر،صمم على الطراز المعماري العثماني.
 واليوم مدينة بودابست هي مدينة عالمية، تنتقل سنة بعد سنة إلى مراتب متقدمة جديدة على قوائم التراث العالمي، وذات تميز في التجارة والسياسة والتمويل والإعلام والفن والأزياء والأبحاث والتكنولوجيا والتعليم والترفيه والمركز المالي للدولة، وتُعرف المدينة باسم "ملكة نهر الدانوب" وتحتل مكانة رفيعة على مستوى روائع التراث المعماري، وتعد واحدة من أجمل عشر مدن في العالم، وتعد من أكثر المدن رومانسية.
 ومن الملاحظ أيضا، إن الأجيال الشابة والناشئة من المجريين يكملون نهج أسلافهم، الذي تميز بالانفتاح والتودد إلى الآخرين، ما يجعل من مدينتهم أكثر ترحيباً بالزائرين، ولذلك، ينصح بها كثيرا كوجهة تستحق الزيارة، كما تضيف الأحياء المتفرقة للعاصمة وعددها 23، تنوعا رائعا إلى المدينة، فلكل حي طابعه الخاص، فبغضّ النظر عن تعدد مناطق المدينة، فمن الملاحظ إن جميع سكانها يفخرون بمدينتهم.