جفرا نيوز - د. محي الدين توق
إذا لم تحدث مفاجآت غير متوقعة هذا الصيف- لا قدر الله- فمن المتوقع إعادة فتح المدارس وعودة الطلبة للدراسة الاعتيادية بعد اغلاق دام حوالي خمسين أسبوعا، تحول الطلبة اثناءه من التعلم عن قرب (الوجاهي) الى التعلم عن بعد (الالكتروني).
ورافق هذا التحول العديد من المشاكل والتحديات للنظام التعليمي الأردني، الا ان الاستجابة لهذا الطارئ تميز بالسرعة والملاءمة والقدرة على التكيف مقارنة مع دول الإقليم، بل وحتى بالمقارنة مع الدول النامية، آخذا بعين الاعتبار الإمكانات الوطنية المتاحة، وذلك بشهادة العديد من المنظمات الدولية.
لقد حقق الأردن في العقود القليلة الماضية إنجازات لا يستهان بها في مجالات الاتاحة والانتشار والعدالة والادماج حيث بلغ عدد الملتحقين في التعليم العام 2020 ما يزيد على مليوني طالب وطالبة، أي ما يوازي حوالي 20 % من السكان، نصفهم تقريبا من الاناث، يقوم بتدريسهم وادارتهم حوالي 175 ألف معلم ومعلمة واداري، وبلغت نسبة المعلمين الذين يحملون الدرجة الجامعية الأولى 95 %، وانخفضت نسبة عدد الطلاب للمعلم الواحد انخفاضا ملحوظا، كما انخفضت نسبة الامية الى ما دون 5 %. وتخصص الدولة للتعليم نسبة تتراوح بين 9-10 % من الموازنة العامة، فيما تصل نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي الإجمالي الى حوالي 3-3.5 % وتعتبر هذه النسب من النسب العالية عالميا.
كما حدثت في السنوات القليلة الماضية زيادة ملحوظة في عدد شعب رياض الأطفال، وسيصبح التعليم في هذه المرحلة إلزاميا قريبا، كما تدنت نسب الرسوب والتسرب، وبدأت علامات الطلبة الأردنيين بالتحسن التدريجي في الامتحانات الدولية المقارنة.
وإذا ما تم البناء على هذه المكتسبات واستغلالها بشكل سليم فإن بالإمكان تحقيق التقدم التربوي الذي يصبو اليه الجميع.
وفي المقابل يعاني النظام التعليمي الأردني من مشكلات عدة تتطلب جهودا مكثفة لحلها والتغلب على تحدياتها مثل تواضع نوعية المخرجات التعليمية وضعف ملاءمتها لمتطلبات سوق العمل الجديد عالي المرونة، واتساع فقر التعلم والفجوة التحصيلية، وضعف المناهج والكتب المدرسية، وتدني نسبة الطلبة الذين ينهون المرحلة الثانوية بنجاح من أبناء السويات الاقتصادية والاجتماعية المنخفضة، وانخفاض متوسط سنوات التمدرس للمواطنين بشكل عام. واظهرت جائحة كورونا بالإضافة الى ذلك ضعف جاهزية البنى التكنولوجية للاستخدام واسع النطاق للتعليم الالكتروني.
ان جائحة كورونا التي ضربت الأردن قبل ما يزيد على عام تهدد بفقدان العديد من المكتسبات التربوية الي تحققت، وقد فاقمت الجائحة المشكلات التي يعاني منها النظام التعليمي. لقد اثرت الجائحة على التعليم بأكثر من طريقة، مثل اغلاق المدارس، وانخفاض الوقت المخصص للتدريس، وانقطاع عشرات الآلاف من الطلبة عن الدراسة، وزيادة المشكلات النفسية والاجتماعية لدى الطلبة، ويضاف لكل ذلك انخفاض إنفاق العائلات على التعليم نتيجة تدني مداخيلها جراء الجائحة، اذ يقدر ان نسبة انخفاض دخل الاسر الأردنية جراء الجائحة بلغت 8 % في المتوسط.
لقد قدرت وزارة التربية والتعليم ان حوالي 100 ألف طالب لم يلتحقوا بالتعليم الالكتروني، ومن المتوقع ان غالبية هؤلاء لن يعودوا للمدارس عندما تفتح أبوابها.
وإذا اضيف لما سبق، عدم ارتقاء التعليم الالكتروني للمستويات المطلوبة، فإن من شأن كل ذلك ان يزيد من فجوة اللامساواة التعليمية التي يعاني منها النظام التعليمي الأردني.
هذا ويقدر بعض الخبراء ان سنوات التمدرس للمواطنين قد تنخفض بمقدار عام دراسي واحد في المتوسط، ويقدر الاقتصاديون ان ذلك يعني خسارة الاقتصاد الوطني لنسبة قد تصل الى حوالي 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، كما يقدر الخبراء ان الخسارة الاقتصادية نتيجة الفاقد التعليمي فقط خلال فترة الاغلاق بحوالي 2.7 بليون دينار أردني.
ان كل ما سبق يستدعي النظر للعودة الى المدارس نظرة استراتيجية بعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار عدة أمور، منها:
المحافظة على صحة وسلامة الطلبة والمعلمين والمعلمات والمجتمع بشكل عام.
المحافظة على المكتسبات التي تحققت خلال العقود الماضية او وقف تراجعها على اقل تقدير.
اتخاذ تدابير وإجراءات عاجلة لمواجهة المشكلات والتحديات الفنية واللوجستية التي برزت اثناء الجائحة.
اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة للارتقاء بنوعية التعليم بشقيه، عن قرب وعن بعد (الوجاهي والالكتروني) لتعويض ما فات وردم الفجوة بين واقع الحال التعليمي والمستوى المأمول.
تعزيز دور كل من العائلة والمجتمع المحلي في دعم التعلم والاندماج في العملية التعليمية التعلمية.
لقد فرضت جائحة كورونا التعليم عن بعد (الالكتروني) على كل دول العالم بدون استثناء، وقد بلغ عدد الطلبة الذين تلقوا تعليمهم الكترونيا اثناء الجائحة حوالي 1.3 بليون طالب، ومن المتوقع ان يستمر هذا النمط من التعليم حتى بعد انتهاء الجائحة لسنوات طويلة حيث اظهر استطلاع أجرته منظمة (ابسوس) شمل 25500 مشارك من 29 دولة ان 73 % من المشاركين يتوقعون استمرار التعليم الالكتروني في المستقبل، وان نسبته ستكون بنفس نسبة التعليم الوجاهي، بينما افاد ربع المشاركين ان التعليم كله سيكون عن بعد في المستقبل، في الوقت الذي أشار ثلث المشاركين فقط بأن التعليم في المستقبل سيكون كلة وجاهيا. اما من حيث الكلفة فقد أفاد نصف المشاركين ان كلفة التعليم الالكتروني ستكون معقولة.
ويوفر التعليم عن بعد عندما يتم تطويره بشكل جيد حلولا معقولة لعديد المشكلات التي يواجهها التعليم النظامي وغير النظامي وغير الرسمي وبكلف معقولة، ومن المؤكد ان التعليم في المستقبل سيكون هجينا ومدمجا وفي غاية المرونة، لذا فإن أي استراتيجية للعودة للمدارس يجب ان تكون شاملة وأن تتضمن دعم وتعزيز التعليم عن بعد، وتطوير أبعاده المختلفة، وتوفير مستلزماته التقنية واللوجستية والبشرية، والارتقاء بنوعيته وفاعليته.
كما يجب ان تأخذ الاستراتيجية بعين الاعتبار ان التعليم جهد وطني وصالح عام وبالتالي يجب ان تتضافر جهود القطاعات الرسمية والخاصة والمدنية في تطويره، ومعالجة الآثار الناجمة عن الجائحة بشكل خاص.
وما من شك في ان طريقة استجابة الحكومة في هذا الصدد عامل حاسم، سواء تعلق الامر بسن التشريعات ووضع السياسات او اتخاذ التدابير والإجراءات.
ومن اهم هذه التدابير والإجراءات ضمان العودة الآمنة للمدارس، ووصول الطلبة لمواد التعلم عن بعد، وفاعلية الترتيبات العامة للتعلم عن بعد وعن قرب.
كما ان على القطاع الخاص التعاون مع الحكومة لضمان شمول رقعة المملكة بشبكة الانترنت وخفض تكلفة اشتراك الطلبة وتوفير أجهزة كمبيوتر او أجهزة لوحية بأسعار عادلة ومعقولة وان يصبح هذا الامر جزءا ثابتا من سياسات المسؤولية الاجتماعية للشركات.
كما من الضروري اندماج أولياء أمور الطلبة في عملية التعليم والتعلم عن طريق تقديم الدعم والمساندة لأبنائهم وتوفير الأجواء المناسبة لهم.
اما المجتمع المحلي والمدني فلا بد من ان يندمج بشكل أفضل في العملية التربوية ككل، هذا الدور الذي غاب او أهمل بشكل واضح طوال فترة الجائحة.
وفيما يتعلق بالتدابير والإجراءات السريعة والملحة التي يمكن ان تقوم بها الحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص لرفع درجة جاهزية النظام التعليمي لبدء العام الدراسي الجديد ومعالجة ازدياد فقر التعلم نتيجة الجائحة فيمكن ايراد الأمثلة التالية:
وضع وتنفيذ برنامج تعليم تعويضي في العطلة الصيفية بالتركيز على مهارات الأساس والمصفوفة التعليمية خاصة لطلبة المرحلة الابتدائية والطلبة في مناطق الفقر.
تدريب المعلمين خلال العطلة الصيفية على مهارات وتقنيات التعليم والامتحانات عن بعد.
نشر وتقوية الشبكة الإلكترونية لتغطي كافة مناطق المملكة.
توفير أجهزة كمبيوتر او أجهزة لوحية للطلبة من الفئات الأضعف في المجتمع كمنح او بأسعار تفضيلية.
تطبيق إجراءات حازمة حول عمل الأطفال لضمان عودة من تسرب منهم الى المدارس.
توفير كوبونات تعلم لأبناء الاسر الأكثر تضررا من الجائحة للالتحاق بالمدارس الرسمية والخاصة القريبة من منازلهم والبقاء فيها وفق معايير محددة لهذه الغاية.
تحفيز القطاع المدني والأهلي للاندماج بشكل أفضل في العملية التعليمية ودعم العائلات الأكثر فقرا وخاصة في القرى والارياف والبوادي.
تكثيف التواصل مع المجتمع الدولي والجهات المانحة لزيادة الدعم المقدم لبرامج التعليم الموجهة للفئات الأقل حظا واللاجئين.
*وزير التعليم العالي السابق