جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف
ما أحَببتُ أن يُراقَ دمٌ لمسلمٍ في سلطاني ولو بملء الأرض ذهبًا- عمر بن عبد العزيز.
تزخر السجلات التاريخية العربية بروايات تُظهر كيف كان القادة العسكريون يعتزلون الناس أيامًا في أعقاب المعارك الحاسمة، للتأمل العميق في الأرواح التي أُزهقت، محاسبين ضمائرهم قبل أن يسمحوا لأنفسهم بالاحتفاء بالانتصار. ففي أعقاب غزوة اليمامة، عندما سقط عددٌ كبير من حَفَظة القرآن الكريم شهداء، نُقل عن القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أنه انفرد بنفسه حزينًا ذارفًا الدموع قائلًا: «هؤلاء الذين قُتلوا في اليمامة كان فيهم من هو خيرٌ مني؛ قاتلوا لله ولقوا ربهم، أما خالد فما زال في الدنيا». لقد كانت تلك المعركة مُبرَّرة من الناحية الاستراتيجية، بل ضرورية لتحقيق هدف جليّ: صون الأمة من الفتنة، ورغم النصر، لم يستطع خالد أن يستشعر الفرح، لأن ثمن ذلك النصر كان أرواحًا طاهرة.
بعد أن هدأت قعقعة السلاح وسكنت أصوات القصف، عاد جنود الكيان الصهيوني إلى مستوطناتهم ومساكنهم. لكن استقبال المجتمع لهم لم يكن احتفاليًّا؛ فلم تُقَم مسيرات انتصار، ولم تُنثَر الورود على طريقهم، بل واجههم صمتٌ مُطبِق وتساؤلٌ مؤرِّق يلاحقهم: ما الغاية من كل هذا الدمار؟ عامان كاملان من الإبادة؟ لأي سبب سقط رفاق السلاح؟ ماذا عن الأطفال الذين أُزهقت أرواحهم؟ هل كانوا بحق أعداءً كما صوّرهم نتنياهو؟ هل كانوا فعلًا «عماليق» أو «كائنات بشرية متوحشة» كما زُرعت في أذهانهم تلك الصورة المُضلِّلة؟
إن معاناتهم تتماثل بشكل مذهل مع معاناة الجنود العائدين من حروب ظالمة منيت بالفشل الذريع، تتشابه حالتهم النفسية مع حالة الجنود الأمريكيين الذين تم إرسالهم إلى فيتنام لمواجهة ما تم الترويج له إعلاميًا على أنه خطر شيوعي داهم يهدد أمن أوطانهم؛ لكنهم وجدوا أنفسهم عوضًا عن ذلك يحاربون مزارعين بسطاء ويحرقون قرى بأكملها مع ساكنيها. عاد أولئك الجنود يجترّون مرارة الهزيمة، متروكين لوحدتهم مع كوابيسهم الليلية وندمهم القاتل، فانتهى مصير أعداد كبيرة منهم إلى الانتحار أو الغرق في مستنقع الإدمان والانهيار النفسي.
وفي تكرار مأساوي للتاريخ، ذهب أبناء بعض هؤلاء الجنود بدورهم إلى العراق تحت ذريعة منع استخدام أسلحة الدمار الشامل المزعومة، ليكتشفوا لاحقًا أن تلك المبررات لم تكن سوى أكاذيب ممنهجة؛ فعادوا محملين باضطرابات نفسية ناجمة عن صدمات الحرب. كانت المحصلة النهائية موجة من حالات الانتحار وتفشي وباء المخدرات والانعزال واليأس.
ومع انقضاء الوقت، سيدرك جزء من الجنود الصهاينة أن تجربة غزة كانت أشد قسوة ووطأة من تجارب بغداد وفيتنام وأفغانستان مجتمعة. لقد دُفع بشبان وشابات، معظمهم من قوات الاحتياط غير المُدرَّبة، لخوض مواجهة مع أطفال لم تنكسر إرادتهم رغم عامين متواصلين من حملة الإبادة. وحين يخيم الهدوء ويخفت صخب المعارك، سيتجلى السؤال الأكبر محفورًا على جدار الذاكرة الجماعية: لماذا كان كل هذا؟
تُبنى جميع الحروب على ثنائية تقسيمية واضحة: «هم» في مقابل «نحن». لكن هؤلاء الجنود سيعودون حاملين معهم هاتين الكلمتين إلى ديارهم، ليجدوا أنفسهم محاصرين بتساؤل مُلحّ: لماذا ينعم يائير نتن ياهو - نجل رئيس الوزراء الصهيوني - بحياة مترفة في شقة فارهة على شاطئ ميامي، بينما لقي رفيق سلاحي حتفه في ميدان القتال؟ ولماذا خسر زميلي الآخر ساقيه ليصبح عاجزًا مدى الحياة؟
طوال فترة العدوان والإبادة، ظلت مقاهي تل أبيب ونواديها ومطاعمها تعج بروادها، في مشهد من الحياة الطبيعية؛ وقد استغل الساسة الصهاينة هذا المشهد وقدموه للعالم كبرهان على التحدي والصمود الوطني. لكن ذلك المشهد نفسه كان بالنسبة للجنود العائدين من جحيم غزة بمثابة خنجر يُغرَس في صدورهم. لقد عادوا بأطراف مبتورة وعيون مفقوءة وأرواح محطمة، حاملين على أكتافهم رفقاء لم يتبقَّ منهم سوى أشلاء؛ جنود دُفعوا إلى أتون المذبحة بعد حملة غسيل دماغ ممنهجة أقنعتهم بأنهم «الجيش الأكثر أخلاقًا في العالم»، وأن سلاحهم طاهر من دنس الجرائم. لكنهم اصطدموا بالحقيقة المُفزعة: أنهم ليسوا سوى جيش هش من ورق يفتقر إلى أدنى معايير الأخلاق، ارتكب مذابح بحق أطفال أبرياء، ولم تُنقذه ترسانته التكنولوجية ولا دعم القوى العظمى من هزيمة أخلاقية وإنسانية ساحقة تسبق الهزيمة العسكرية وتفوقها خطورة.
يكمن الفارق الجوهري بين عودة الجنود الأمريكيين وعودة جنود الكيان الصهيوني في أن الأولين اندمجوا واستوعبهم نسيج مجتمعي متنوع يمتص الصدمات، بينما في المجتمع الصهيوني - الذي يُعدّ مجتمعًا عسكريًا حيث يشكل الجيش عموده الفقري - ستظل تداعيات عودة هؤلاء الجنود عميقة الأثر ومتغلغلة في كافة طبقاته. ستخلّف هذه العودة ندوبًا غائرة في جسد المجتمع بأكمله، وستوسّع الشروخ والانقسامات القائمة أصلًا، لتترك حرب الإبادة هذه أثرًا ثقافيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا عميقًا وطويل الأمد يستعصي محوه أو تجاوزه بسهولة.
ربما دُمِّرت البنية التحتية لغزة وتحولت أحياؤها إلى ركام، لكن إرادة أهلها وعزيمتهم لم تنكسر؛ وفي المقابل، لم يُمحَ الكيان الإسرائيلي من الوجود، غير أن جيشه - الذي طالما تباهى بقوته - قد انكسر معنويًّا وأخلاقيًّا. ستبدأ الآن مرحلة قاسية ومريرة من المراجعات الصارمة، والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الأهداف المُعلنة لتلك الحرب لم تتحقق على أرض الواقع. وإذا كان نتن ياهو يتبجح ويُعلن انتصاره، فإنني أتوجه إليكم بسؤال منطقي واحد: كيف كان سيبدو مشهد الهزيمة إذن لو لم يكن هذا هو؟