جفرا نيوز -
علي ابو حبلة
لا تزال الصهيونية الليبرالية تلعب دورًا مركزيًا في صياغة صورة إسرائيل في الغرب، رغم صعود اليمين القومي والديني داخل النظام السياسي الإسرائيلي. فبينما تُعرّف الحكومات الغربية إسرائيل بأنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وتُقدَّم كدولة تتبنى قيمًا غربية تقدّمية، يغيب عن هذا الخطاب جوهر المشروع الصهيوني: دولة استعمارية استيطانية تمارس الفصل العنصري على شعبٍ واقع تحت احتلالها.
تعود جذور الصهيونية الليبرالية إلى الصهيونية العمالية التي شكّلت القاعدة الأساسية للدولة الإسرائيلية منذ ما قبل عام 1948. ورغم تقديمها في الغرب كنسخة «إنسانية» من الصهيونية، فقد كانت مسؤولة عن عمليات التطهير العرقي، وتهجير الفلسطينيين، وبناء بنية سياسية وقانونية تقوم على التفوق الإثني. وقد تولّت حكومات «اليسار» الصهيوني تاريخيًا إدارة الاحتلال، وتطوير المستوطنات، وبناء المنظومة الأمنية التي تُخضع الفلسطينيين حتى اليوم.
من هنا، فإن التمييز بين «صهيونية يمينية» وأخرى «ليبرالية» يصبح تمييزًا وظيفيًا لا جوهريًا. فكلتاهما تنطلقان من ذات الفكرة: اعتبار فلسطين أرضًا بلا شعب، وتبرير السيطرة عليها بقوة السلاح والسياسة والدعم الدولي. وما يُقدَّم كاختلاف سياسي بين اليمين والليبراليين لا يتعدى كونه خلافًا حول الأسلوب، لا حول الهدف ولا حول طبيعة المشروع الاستعماري.
يأتي الدور الأخطر للصهيونية الليبرالية من قدرتها على صياغة خطاب عالمي موجّه للرأي العام الغربي، يُصوّر إسرائيل كدولة «حديثة ومتقدمة»، بينما يحمّل اليمين المتطرف مسؤولية الانتهاكات. وبهذا، تُستخدم الليبرالية الصهيونية لتبرير استمرار الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، بما يشمل الدعم العسكري والمالي والسياسي. فالولايات المتحدة وأوروبا تعتمد بشكل كبير على هذا الخطاب لتسويق تحالفها مع تل أبيب تحت غطاء قيم الحرية والحداثة.
وفي الإعلام الغربي، يظهر هذا التأثير جليًا؛ إذ تُقدَّم انتقادات للسياسات اليمينية المتطرفة، لكن دون المساس بالبنية الاستعمارية للدولة. وتُطرح باستمرار دعوات «العودة إلى حل الدولتين»، باعتباره المخرج الوحيد، رغم أن سياسات الحكومات الليبرالية ذاتها كانت السبب في تقويض هذا الحل عبر التوسع الاستيطاني وفرض نظام السيطرة الأمنية على كامل الأراضي الفلسطينية.
ولا يتوقف تأثير الصهيونية الليبرالية عند حدود السياسة والإعلام، بل يمتد إلى الأكاديميا والمنظمات غير الحكومية واللوبيات المؤثرة في الولايات المتحدة وأوروبا. فهناك عشرات المؤسسات التي تعمل على تسويق إسرائيل كنموذج للديمقراطية والتعددية، بينما تمتنع عن تناول قضايا الاستعمار الاستيطاني أو نظام الفصل العنصري. وتتحول هذه المؤسسات إلى أدوات ضغط واسعة النفوذ تُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية بصيغة أكثر جاذبية للرأي العام الغربي.
لقد ساهم هذا الخطاب في خلق وهم مفاده أن المشكلة تكمن في حكومة يمينية متشددة، وليس في طبيعة النظام نفسه. بينما الحقيقة أن الاحتلال والاستيطان ليسا انحرافًا عن المشروع الصهيوني، بل هما جوهره. وأن التمييز المنهجي بين اليهود والفلسطينيين، والسيطرة على الأرض، وحرمان السكان الأصليين من حقوقهم، هي ممارسات وُضعت أسسُها في عهد الحكومات الليبرالية قبل صعود اليمين بزمن طويل.
إن مواجهة الصهيونية الليبرالية تتطلب إعادة تعريف قضية فلسطين عالميًا، بوصفها قضية استعمار استيطاني وليست صراعًا سياسيًا قابلًا للإدارة. ويتطلب ذلك العمل على بناء خطاب حقوقي وسياسي يعيد مركزية تفكيك منظومة الفصل العنصري، ويُبرز أن الاحتلال ليس حالة طارئة، بل سياسة ممنهجة أُسست منذ نشأة الدولة.
كما يتطلب تفكيك الرواية الليبرالية كشف دورها في شرعنة الدعم الغربي، وإعادة توجيه النقاش نحو حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وفق القانون الدولي، وضرورة إنهاء الاستعمار بكافة أشكاله.
ختامًا، فإن الصهيونية الليبرالية ليست بديلاً معتدلًا عن اليمين المتطرف، بل هي الوجه الناعم للمشروع ذاته. وهي التي سمحت لهذا المشروع بأن يظهر في الغرب كجزء من الحضارة الحديثة، رغم سياساته القائمة على الإقصاء والاستيطان والعنف. ولا يمكن لأي عملية سياسية أن تنجح ما لم يتم الاعتراف بالحقيقة الكاملة للمشروع الصهيوني، بما هو مشروع استعماري لا يمكن إصلاحه بطلاء ليبرالي، بل بإنهائه وإقامة نظام يضمن الحقوق والعدالة للشعب الفلسطيني بكامل مكوناته.