جفرا نيوز -
كتب - يونس الكفرعيني
تفيّأ… كلمة واحدة لكنها تحمل في ظلالها آلاف الصور والمعاني. ليست مجرد فعلٍ لغوي، بل حالة وجودية كاملة، رحلة تتقاطع فيها الروح مع أعمق طبقاتها، وتلتقي فيها الذات بذاتها في زاويةٍ من نورٍ داخلي لا يدركه إلا من قصد إليه بقلبٍ لا يزال قادرًا على الارتجاف. أن يتفيّأ الإنسان يعني أن يجد ظله الحقيقي، أن يلجأ إلى راحةٍ ليست مدينة لأحد، وأن يعود إلى مرآته الأولى قبل أن تتكاثر على وجهه مرايا الآخرين.
فللمرء راحاتٌ بداخله، وواحاتٌ سرّية لا يصل إليها إلا حين تصير الخطوة تائهة، والنَفَس ثقيلًا، والضجيج مكثفًا. عندها فقط يبدأ الإنسان بالذهاب إلى الداخل، ليس هروبًا من العالم، بل بحثًا عن العالم الحقيقي الذي أضاعه خارج حدود روحه.
كيف بك، ولك من دمعك الوافر غسولٌ مستودع في إناء محبة، يحنو عليك كلما اغترفت منه؟ كم من مرّة ظن الإنسان أنّ البكاء ضعف، فإذا به يكتشف أنه الطهارة الأولى، والغسل الأخير، والماء الذي يعيد ترتيب الحطام. إن الدموع ليست انكسارًا كما يتوهم الناس، بل هي امتياز لا يُعطى إلا للناضجين الذين تعرف أرواحهم كيف تنزل إلى قاعها لتصعد أنقى.
البكاء فعلٌ من أفعال القوّة الخفية. فالأقوياء وحدهم يملكون الشجاعة ليعترفوا بتعبهم، ويغسلوا أرواحهم من الغبار. أما الذين
يدفنون دموعهم تحت ركام التماسك المزيف، فإنهم لا يفعلون سوى تراكم الملح في قلوبهم حتى تتصلب.
وقديمًا قالت العرب: "إذا اشتدّ الحزن ضاقت العيون حتى سالت الدموع، وإذا اشتدّ الفرح ضاقت الكلمات حتى صمتت الشفاه.”
فالدموع لغة الصدق حين تخون اللغة، وإناء المحبة الذي يحمله كل إنسان داخله، يمده بالطاقة كلما غمره بالحنو. إنّ الذي يفهم قيمة انكساره، يدرك أنه لم ينكسر، بل انحنى ليلتقط نفسه من جديد.وزوادتك من أديم السماء مصنوعة، كأنّ يقينك قد خُلق من المطر، لا من تراب الأرض. كم من إنسان يستمد صلابته من الناس،
فينهار حين يتخلون عنه؟ وكم من إنسان يستمدها من ذاته ومن سماواته الداخلية، فلا تهزمه عاصفة؟
إنّ العطاء الذي يأتي من الداخل لا ينضب، لأن مصادره ليست بشرية، بل روحية. الروح التي تعيش متصلة بالسماء لا تخشى الفقد، ولا تتهيب الخذلان، لأنها تعرف طريق عودتها إلى النهر الأول، إلى النبع الأبدي الذي لا تجف مياهه.
نفسك هطّالة، ينتهي ساحلها عند مصبّ فراديسك، كأنّك أنت البحر وأنت المطر وأنت النبع. فكل روحٍ عرفت سرّ المطر الداخلي، كانت قادرة على الإزهار حتى لو جاورت الصحراء. وكل إنسانٍ حافظ على يقينه في الدواخل، كان قادرًا على خلق حدائق من حجارة.
ولك منك ساق كوثرِي القدح، دوماً ما يجلس تحت ميزابك الذي يهمي. تسقي نفسك بنفسك، وتعطي بلا خوف، وترتوي دون انتظار. وهذه قدرةٌ لا تنتمي إلى عالم الاستهلاك الذي لا يرى في الإنسان سوى جهدٍ يجب استنزافه، ووقتٍ يجب استغلاله، وطاقةٍ يجب حرقها.
إن أجمل ما يمكن أن يمتلكه الإنسان هو القدرة على استضافة نفسه في داخله. أن يكون له مجلسٌ مع ذاته لا يشعر فيه بالوحشة، ولا يقف فيه وحيدًا أمام السؤال. أن يجد صدرًا يضع عليه رأسه دون أن يبرّر، ودون أن يخشى الحكم، ودون أن يتظاهر.
فلا عجب… فكلما مررت بذلك الميزاب الداخلي ناولك من البهجة اكسيرًا. في لحظة واحدة تتبدّل الأزمنة، ويتحوّل الضيق إلى فسحة، وتستيقظ الأنهار تحت التراب. ما أعجب قدرة النفس حين تصطلح مع نفسها… تخلق طقسًا أبديًا من السكينة، لا يشيخ
ولا يتعب، ويظل قادرًا على الإحياء.
إنّ كثيرين يظنون أنّ الراحة تُهدى، وأن السعادة تُعطى، وأن المساحة تُمنح. لكن الحقيقة الأعمق أن كل ما ينتظره الإنسان من الخارج يمكن أن يبنيه في الداخل. إنّ الاعتماد على الآخرين في الاحتواء كمن ينتظر المطر من سماءٍ لا تمطر.
ولو أدرك الإنسان أنّ ظلّه الحقيقي لا يصنعه سواه، وأن جسور النجاة تُبنى في الخفاء بين القلب والعقل، لوفّر على نفسه مسافات طويلة من التيه. فظلّ الراحة ليس شجرة في طريق العالم، بل نخلةٌ في قلبك، جذورها في رحمة الله، وثمارها على كفيك.
يضيع الإنسان حين ينسى أصله، حين يختلط عليه صوت العالم بداخل صوت روحه. حين يظن أن قيمته في عيون الآخرين، لا في عينيه. حين ينسى أن السعادة ليست حدثًا ننتظره، بل حالةً نبنيها. وأنّ السلام ليس هدية تُعطى، بل عمل يومي شاق، يحتاج إلى صبرٍ وانصات وصدق.
ربما لهذا السبب يعود الحكيم إلى نفسه كلما تعب. ليس لأنه انعزالي، بل لأنه يعرف أن الوحدة الإيجابية ليست عزلة، بل ترياق. وأن الخلوة ليست هروبًا، بل إعادة تشكيل. وأن الصمت ليس فراغًا، بل لحظة امتلاء.
أنت من كل الجهات ماطر؛ حدائقك ريانة العروق من احتضانك إياك. فهذا الاحتضان الداخلي هو أعظم أشكال النجاة. إنّ
الإنسان الذي يعرف كيف يضم نفسه حين تتكسر إحدى أجنحته، سيعرف كيف يطير من جديد دون أن ينتظر من يرفعه.
وكم من أناس عاشوا ممتلئين بالحب لأنهم أحبّوا أنفسهم أولًا، فاستقاموا واستناروا وأصبحوا قادرين على منح العالم شيئًا أجمل من الكلام: القدرة على الحياة.
في زمنٍ تتراكم فيه مسؤوليات العمل، وضجيج الشبكات، وضغط المقارنات، وأوهام السرعة، يصبح الرجوع إلى الذات ضرورةً لا ترفًا. فمن لا يعود إلى نفسه يضيع في الآخرين. ومن لا ينصت إلى صمته، لن يستطيع فهم الضجيج. ومن لا يعرف قيمة روحه، لن يفهم معنى الحياة.
يا لصخب العالم حين يغيب الإنسان عن ذاته!
ويا لصمت العالم حين يعود إليها!
إن أعظم ما يملكه المرء ليس المال ولا المكانة ولا التصفيق، بل القدرة على أن يكون صديقًا لنفسه، وسندًا لها، وسماءً تمطر حين يجف كل شيء.
فلتتفيأ…
ولتجعل من دمعتك غسولًا، ومن يقينك مطرًا، ومن داخلك وطنًا تعود إليه كلما شعرت بالغربة.
اصنع ظلك بيديك، وارتوِ من نبعك، وابحث عنك قبل أن تبحث عن العالم.
فمن عرف نفسه، لم يضره جهل العالم به.
ومن أحبّ نفسه بصدق، لم يرهقه انتظار الحب من الآخرين.
ومن بنى راحته في الداخل، لم يعد يخشى الفقد في الخارج.
التفيؤ ليس انسحابًا… بل وصول.
ليس هروبًا… بل لقاء.
ليس صمتًا… بل نطقٌ أعمق من الكلام.
فأنت… من كل الجهات ماطر.
والسلام الحقيقي يبدأ من الداخل، لا من السماء.