النسخة الكاملة

حين ينام الضمير وتسويق المصالح

الثلاثاء-2025-11-25 09:25 am
جفرا نيوز -

خالد مفلح البداوي

في هذا الزمن المزدحم بالصراع اليومي، لم تعد المشكلة في ضيق الرزق أو قسوة الظروف فقط… بل في تغيّر الانسان نفسه. صرنا نعيش مرحلة غريبة، مرحلة يتراجع فيها الشعور، وتتقدّم الحسابات، وتُستبدَل الانسانيه بتفكير بارد لا يعرف الدفء. أصبح الانسان يسأل عن المصلحة قبل أن يسأل عن الوجع، وعن المكسب قبل أن يرى الدموع أمامه.

شاب يقف على أبواب المؤسسات منذ سنوات، يحمل شهادته وأمله، ولا يجد سوى "راجعنا بكرة”، وكأن مستقبله مؤجل إلى إشعارٍ غير معروف. امرأة تنهكها مسؤوليات الحياة، تربي وتكافح وتقاوم قسوة الأيام، ولا تسمع كلمة تقدير أو حتى محاولة فهم. كبار السن الذين تعبوا من أجل عائلاتهم وبلادهم أصبحوا يجلسون على المقاعد الخلفية للحياة، كأن وجودهم تفصيل إضافي لا يلاحظه أحد.

المؤلم أن كل هذا يحدث بصمت… بصمت ثقيل يشبه سقوط القيم واحدة تلو الأخرى.
فالظروف لوحدها ليست ما ينهكنا، بل تحول القلوب الى حجارة صامته.
هكذا بكل بساطة… قلوب تصمت حين يجب أن تتكلم، وتتقسى حين يجب أن ترفق، وتبتعد حين يكون الاقتراب واجباً انسانياً قبل أن يكون أي شيء آخر.

الانسانيه لم تعد قاعدة ثابتة، بل أصبحت حالة نادرة. وبدلاً من أن تكون معياراً للتصرف، تحولت إلى رفاهية لا يتقنها إلا القلة. اللامبالاة أصبحت "واقعية”، والأنانية أصبحت "ذكاءً”، وكأن المجتمع يبرر سقوطه وهو يبتسم.

المجتمع لا ينهار عندما ترتفع الأسعار فقط… المجتمع ينهار عندما يفقد أفراده القدرة على الشعور ببعضهم.
عندما يصبح الضعيف بلا يد تُمسكه، والمتعب بلا كلمة تواسيه، والمحتاج بلا قلب يحنّ عليه.
عندما تُختصر العلاقات بميزان المكاسب، وتُختزل الرحمة في كلمات تُقال للزينة فقط.

الانسانيه ليست شعاراً ولا نظرية. هي فعل صغير قادر على إحياء قلب كامل.
هي كلمة طيبة في لحظة ضعف، ووقوف إلى جانب شخص لا يعرف كيف ينهض وحده، ونظرة تقدير لمن اعتاد أن يُهمل.
فالقلوب مثل الجدران القديمة؛ تحتاج إلى من يرممها قبل أن تتصدع وتسقط.

ورغم كل هذا، ما يزال الأمل قائماً… فوجود شخص واحد يرفض قسوة العصر قادر على أن يغيّر مزاج مدينة بأكملها. قدرة الناس على الخير لم تمت، لكنها تنتظر من يوقظها. تنتظر من يذكرنا أن الشعور بالآخر ليس ضعفاً… بل هو آخر ما يبقي الانسان انساناً.

ويبقى المجتمع بخير…
ما دام فيه من يصرّ على أن الضمير لا ينام… حتى وإن حاولت المصالح تسويقه ودفنه.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير