النسخة الكاملة

أحيانًا لا يوجد عدوّ... حتى تبحث أنت عنه

الخميس-2025-11-13 06:36 pm
جفرا نيوز -
كتب - يونس الكفرعيني 

تلك هي الحقيقة التي يكتشفها الإنسان بعد أن يُنهكه القتال الطويل في ميادين لا أحد فيها سواه.

نحن نحمل في داخلنا نزعة خفية للخصومة، كأننا نخاف الهدوء. فعندما تهدأ البحيرة، نخشى انعكاسنا على سطحها، فنلقي حجرًا صغيرًا في قلب الماء لنتخلّص من وضوح الصورة.

يعيش كثير من الناس على إيقاع الصراع؛ لا لشيء سوى أن الهدوء يذكّرهم بفراغٍ ما في داخلهم. فيبتكرون معارك كي يشعروا بأنهم أحياء.

لكن، ما الذي يدفع إنسانًا إلى أن يخوض حربًا لا عدوّ له فيها؟ إنها النفس حين لم تتعلّم بعد أن تصمت لتسمع نفسها، ولم تذق بعد طمأنينة السكون.

نظنّ أن أعداءنا في الخارج، بينما أكبرهم يسكن في الداخل.
هو ذاك الصوت الذي يهمس لنا بالشكّ كلّما حاولنا أن نخطو بثقة.
هو الخوف الذي يُقنعنا أن الآخرين يراقبوننا ليحكموا علينا، وأن العالم يتربّص بنا.

نحن نُسقط على الناس ما لا نطيقه في أنفسنا؛ فإذا كرهنا ضعفنا رأيناه فيهم، وإذا خشينا خيانتنا لذواتنا اتهمناهم بالخيانة. وهكذا نصنع أعداء من مرايا مكسورة، نرى فيها انعكاس وجعنا لا أكثر.

إنه لَأمرٌ مدهش كيف يمكن لخيالٍ صغير أن يتحوّل إلى جدارٍ يفصل بيننا وبين العالم. نعيش خلفه بحجة الحذر، وننمو في ظله بوهم الحماية، بينما نحن في الحقيقة نحرم أنفسنا من الدفء الإنساني الذي كنا نحتاجه منذ البداية.

نصنع الأعداء بثلاث طرق:
أولها الظنّ، حين نُصدّق خيالاتنا أكثر مما نُصدّق الواقع.
وثانيها الغرور، حين نرفض أن نخطئ فنبحث عن أحدٍ نحمّله الذنب.
وثالثها الخوف، حين نحتاج إلى "خصم" نعلّق عليه قلقنا لنبدو أقوياء.

كل تلك الطرق تبدأ من الداخل، ثم تلبس وجهًا من الخارج.
ولهذا ترى البعض يعيش حالة من التوتر الدائم؛ لا يهدأ إن لم يكن هناك "شخصٌ ما" يلومه أو يقف ضده، حتى لو كان هذا الشخص متوهَّمًا.

في الحقيقة، إننا لا نخشى الناس بقدر ما نخشى مواجهة حقيقتنا بدون أقنعة.
كم من إنسانٍ يجعل من الحرب وسيلة للهروب من نفسه!
يتحدث بصوتٍ مرتفع، يعترض، يجادل، يتهم، كي لا يصغي لذلك الهمس في داخله الذي يقول له: اهدأ، وتفكّر.
الحرب تمنح شعورًا مؤقتًا بالقوة، لكنها تسرق الهدوء الذي لا يُقدّر بثمن.
الذين يعيشون بعقلية الصراع لا ينامون إلا على وسادة الحذر، ولا يستيقظون إلا على خوفٍ من خيانةٍ محتملة.

لكن، أي حياةٍ هذه التي تُبنى على الظنون؟
إنها حياة بلا أمان، مهما كثر فيها الانتصار الظاهري، لأن الهزيمة الكبرى تكون حين نخسر أنفسنا ونحن نظن أننا نحميها.
أحيانًا يكون "عدوك" إنسانًا بريئًا تمامًا؛ لم يفعل سوى أنه أضاء شيئًا فيك لا تريد أن تراه.

ربما كان صادقًا فأوجعك صدقه، أو ناجحًا فأيقظ فيك إحساس النقص، أو محبًا فذكّرك بكمّ الجفاء الذي تحمله في قلبك.
فتظنّه خصمًا، وهو في الحقيقة مرآة.
كم من القلوب فُرّقت بسبب سوء فهمٍ لم يُرد أحد إصلاحه، لأن الأنا كبُرت حتى حجبت الحقيقة!

وكم من العلاقات الجميلة تحطّمت لأن أحدهم فضّل أن يكون على صوابٍ بدلاً من أن يكون في سلام.
من أعظم ما يُدركه الإنسان في رحلته أن السلام لا يحتاج إلى نصرٍ على أحد.
السلام قرار، لا نتيجة.

هو أن تختار ألّا تردّ على الجرح بجرح، وألّا ترى في كل اختلافٍ معركة.
هو أن تفهم أن الصمت أحيانًا أقوى من الردّ، وأن العفو ليس ضعفًا بل شجاعة من نوعٍ آخر؛ شجاعة من استطاع أن يرى الألم دون أن يتحوّل إليه.

السلام لا يعني الاستسلام، بل يعني الوعي بأن لا شيء يستحق أن يُربك روحك إلى هذا الحدّ.
العدوّ لا يختفي حين ننتصر عليه، بل حين نفهمه.
والفهم لا يأتي بالصراخ، بل بالهدوء.

حين نصغي إلى دواخلنا بصدق، نكتشف أن كل خوفٍ كان رسالة، وكل غضبٍ كان استغاثة من وجعٍ لم يُعالَج.
نحن لا نُشفى حين نُسكت أصواتنا الداخلية، بل حين نفهم ما تريد قوله.
ربما كانت تخبرنا أننا بحاجة إلى راحة، إلى محبة، إلى معنى جديد للحياة.

وحين نستجيب لذلك النداء الداخلي، يبدأ العدوّ بالتلاشي، لأننا لم نعد نحتاج إليه لنُبرّر وجودنا.
الذين بلغوا السلام الحقيقي، لا يخاصمون أحدًا.
قد يبتعدون، لكنهم لا يكرهون.
قد يتألّمون، لكنهم لا ينتقمون.

يملكون حكمةً تُشبه صمت الجبال؛ يرون الناس يتنازعون على قممٍ مؤقتة، بينما هم مطمئنّون في ثباتهم.
تعلّموا أن لا أحد يأخذ منك ما هو لك حقًا، وأن العدالة الإلهية أعمق وأهدأ من ضجيج البشر.
لهذا، حين تراهم ساكتين وسط الصخب، لا تظنّهم عاجزين، بل هم فقط أدركوا أن الانتصار الحقيقي هو أن تظلّ روحك نقيّة، مهما اتّسخ الطريق من حولك.

كم مرة فشلنا، فقلنا: "هم السبب!”
كم مرة خسرنا، فقلنا: "العالم ضدي!”
نحن لا نطيق فكرة أن تكون الهزيمة نتيجة اختياراتنا، فنُخترع عدوًا نُلقي عليه اللوم.
لكن الحقيقة البسيطة أن الحياة ليست دائمًا عادلة، ولا دائمًا قاسية.

هي فقط مرآة نُقابلها بما فينا؛ فمن كان في داخله سخط، رأى فيها ظلمًا، ومن كان في داخله سلام، رآها فرصة للنضج.
وما من شيءٍ يُربكك في الخارج، إلا وله جذرٌ لم تُعالجه في الداخل.

المصالحة مع النفس ليست شعارًا، بل تمرين يوميّ على الصدق.
أن تنظر إلى ضعفك دون أن تكره نفسك، وأن ترى أخطاءك دون أن تبرّرها، وأن تغفر لنفسك دون أن تتواطأ معها.

حين تفعل ذلك، يتضاءل حضور العدوّ في حياتك، لأنك لم تعد في حاجة إلى "آخر” تلومه.
تصبح أكثر رحمة، أكثر هدوءًا، وأكثر فهمًا أن كل إنسانٍ في صراعه الداخلي يُحاول النجاة بطريقته.

ومن هذا الفهم يولد التسامح، ومن التسامح يولد السلام.
يصل الإنسان في مرحلةٍ من عمره إلى يقينٍ بسيط:
أن لا أحد كان يقاتله حقًا سوى نفسه.

وأن كل من ظنّهم أعداءً كانوا رسائل، لا خصومًا.
الزمن يُعلّمنا أن الغضب لا يغيّر الماضي، وأن الكراهية لا تبني المستقبل.
فما جدوى أن نحمل السيوف في قلوبنا بينما الحياة قصيرة، والأيام تمضي؟

إن أجمل لحظة هي تلك التي تُدرك فيها أنك لست بحاجة إلى الانتصار على أحد، بل إلى أن تُحبّ أكثر، وتغفر أكثر، وتعيش بسلام أكثر.

في النهاية، ستدرك أن الحرب لم تكن هناك، بل فيك.
وأنك حين تصالحت مع نفسك، لم تعد تحتاج إلى عدوّ.
سترى العالم كما هو: أوسع، أرحب، وأجمل مما تخيّلت.

فلا تبحث عن خصمٍ جديد، ولا تُفسد سكينتك بظنونٍ قديمة.
كن أنت السلام الذي تبحث عنه.

وعندها فقط... لن يعود هناك عدوّ، مهما بحثت عنه.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير