جفرا نيوز -
بشار جرار
به يقسم أحفاد سيدنا إبراهيم الذين ملأوا دنيانا سمعا وبصرا، فصار القسَم جزءا لا يتجزأ من الثقافة الروحية والاجتماعية لشعوب وأمم كثيرة، حتى في زمن ما قبل العولمة، بحلوها ومرّها.
الخبز والملح منفردين ومجتمعين، يدخلان في شعائر وطقوس وتقاليد عديدة حتى صار الأول عهدا بين الناس يدلل فيه الثاني على معدنهم، على أصالة وصلاح جوهرهم، مِلحهم الذي لا تفسده نائبات الدهر، ولا تبخس حقه المنافع، ولا تغويه المصالح.
منذ أيام الحرب الباردة، وإعلامها و»بروباغندا» حكوماتها ومعارضاتها، تم حفر رمزية الخبز المادية -لا الروحية- في وجدان ومخيلة الناخبين والمنتخبين، مسؤولين ومعارضين، فصار «العيش» كما في اللهجة المصرية، هو أول المحرمات التي لا يجوز الاقتراب منها، فيما يخص سياسات الدعم بكل أشكاله ومنها الإعانة وحتى الإعالة، وصار الناس يشكون ضيق ذات اليد أو الحال برمزية الملح المادية -لا الروحية- بالإشارة إلى أن فلانا «يشحد الملح» ولا يجد «خبزا» يسد رمقه.
وبركوب موجات الشعبوية من كثيرين للأسف، لا يقتصر الأمر على سلطة دون سواها، ثمة من اختزل موازنات الدول بتفاهم أو حاصل تصادم أو تفاوض الحكومة والبرلمان على الموازنة بين أولويات ومحرمات كل من الطرفين، وكلٌ يتسلح بما تبدو وكأنها المنطلقات ذاتها، خبز المواطن وملح الوطن.
أخطّ هذه السطور ونحن في الأسبوع الأول من الشهر الثاني للإغلاق الحكومي الأمريكي، وسابقة تعليق التمويل الفدرالي لما ينفق على نحو اثنين وأربعين مليون إنسان في أمريكا (من مواطنين ومقيمين دائمين شرعيين وآخرين غير شرعيين، وطلبة أجانب من المعوزين أو الذين تقطّعت بهم السبل). الخبر صار قضية انتخابية تلقفها الحزبان الجمهوري والديموقراطي في انتخابات كسر عظم لا مجرد استعراض للقوة من أهمها انتخابات ثلاثة مناصب: حاكما ولايتي فيرجينيا ونيوجيرسي وعمدة مدينة نيويورك.
الناظر بموضوعية لموازنات كثيرة في عالم اليوم، يرى الحاجة الماسة لإبقائها أكبر من مجرد توفير واردات لنفقات مهما عظمت أهميتها كدعم المواد التموينية الأساسية وقطاعات الصحة والتأمينات الاجتماعية والطاقة. موازنات الدول والأوطان أكبر من حكومات ومعارضات وصحافة تنحاز مرة إلى هذا ومرات إلى ذاك، طلبا لسرعة النشر «فرقعات صحفية» وانتشار الأخبار المثيرة ورواجها، حتى وإن كانت في منزلة الأخبار الكاذبة أو المفبركة أو الخارجة عن سياقها، بما يحمل ذلك من عائدات إعلانية ونفوذ وسطوة، مصيرها الأفول والنسيان لكن بعد «خراب بصرة»، لا قدّر الله.
الفروقات بين الميزانيات والموازنات معروفة من الناحية الفنية لكن الجوهر واحد. كيف يكون حاصل الوعي والضمير الفردي والمجتمعي والوطني في صالح الحاضر لا الماضي، لكن ليس أبدا على حساب الغد، فذلك مال أبنائنا وأحفادنا جميعا. وما من أولوية تعلو وقف الهدر لأنه الفساد بعينه، والإفساد بقضّه وقضيضه، إن نهش في مؤسسة خاصة أو عامة لم يُبقِ كسرة خبز ولا رشة ملح في «الدار ولا في الديرة»، لا سمح الله.
يظن البعض البطولة والرجولة في ساحات الوغى فقط وفي القضايا الكبرى والاستراتيجية والمصيرية إلى آخره من مصطلحات، لكنها أولا وآخرا في ميادين الرحى.. أن نرى طحنا لا أن نسمع جعجعة. في الموازنات الحديث بلغة الأرقام والحقائق حيث لا مجال للزجل ولا للسجال. البث المباشر مفيد توكيدا للشفافية ولحق الناخبين في التدقيق مليا فيما سمعوا ورأوا، لكن من غير المنصف أبدا أن تكون الغلبة للفصاحة والطلاقة على حساب الحصافة المالية والأمانة الاقتصادية والمسؤولية الروحية والأخلاقية أمام الله سبحانه أولا، وأمام الوطن المفدى والملك رعاه الله. الأمانة ثقيلة دائما، فكيف هي في أيامنا هذه؟