النسخة الكاملة

الهدنة في غزة: ضمانات متبادلة وهشاشة مشروطة

الأحد-2025-10-19 09:31 am
جفرا نيوز -
ماجد احمد السيبيه

الهدنة التي أوقفت دوّامة النار في غزة مؤخرًا لم تكن مجرد استراحة مؤقتة بقدر ما كانت انعكاسًا لتحوّلٍ تدريجي في توازنات الإقليم. فالتفاهم الذي أفضى إلى تبادل الأسرى من الجانبين جاء ثمرة جهودٍ سياسية مكثفة، شاركت فيها أطراف عربية وإقليمية تسعى لتثبيت الحد الأدنى من الاستقرار ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع يصعب احتواؤها لاحقًا.

في قلب هذا الحراك، برز الدور الأردني كعنصر توازن بين السياسي والإنساني. فعمّان تابعت المشهد من زاوية واقعية، محذّرة من انفجارٍ إنساني في القطاع قد تمتد آثاره إلى الإقليم بأسره. التحرك الأردني كان مزدوجًا: سياسيًا عبر الاتصالات الدبلوماسية ومساعي التهدئة، وإنسانيًا من خلال القوافل الطبية والإغاثية التي عبرت نحو غزة في ظل ظروفٍ ميدانية قاسية. الأردن – بطبيعة موقعه الجغرافي ودوره التاريخي في القضية الفلسطينية – يدرك أن استقرار الضفة وغزة ليس مسألة حدود، بل مسألة أمنٍ إقليمي واستقرارٍ اجتماعي طويل المدى.

على الجانب الآخر، تلوح في الأفق ملامح عودة مقاربة أمريكية خاصة بالشرق الأوسط، تحمل بصمة دونالد ترامب الذي لم يُخفِ رغبته في إبرام "صفقة سلام شاملة"، لكنها في جوهرها تقوم على مبدأٍ واضح: أن تكون مصلحة إسرائيل هي الثابت الوحيد وسط متغيّرات السياسة.
سياسة ترامب تبدو كوجهٍ مزدوج لعملة واحدة: يدٌ تحمل العصا عبر الضغط السياسي والاقتصادي على الأطراف الرافضة، ويدٌ أخرى تحمل المكافأة عبر الوعود بالاستثمارات والتطبيع والمساعدات. غير أن كلا اليدين تصبّان في اتجاهٍ واحد: ضمان تفوّق إسرائيل الإقليمي وحماية أمنها الإستراتيجي، حتى لو جاء ذلك على حساب توازنات دقيقة في المنطقة.

المعادلة الآن أكثر هشاشة من أي وقتٍ مضى. فالميدان لا يزال قابلاً للاشتعال، والمجتمع الدولي يراقب بحذر بينما تحاول الأطراف الإقليمية إبقاء خيوط التواصل مفتوحة. ما بين هدنةٍ مؤقتة وتطلّعٍ إلى تسويةٍ دائمة، تقف غزة في المنتصف: أرضٌ أنهكتها الحروب، لكنها ترفض أن تُختزل في معادلات الآخرين.

السيناريوهات القادمة: الأول، أن تُترجم الهدنة إلى مسارٍ طويل المدى تُدار فيه الترتيبات الأمنية والإنسانية برعاية دولية، مع بقاء القضايا السياسية الكبرى مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
الثاني، أن تتعثر التفاهمات بفعل التصعيد الميداني أو تعقّد الملفات الداخلية، فتعود المواجهة إلى شكلها المتقطع المعتاد.
أما الثالث، فيبقى الأكثر تعقيدًا والأكثر احتمالًا على المدى المتوسط: أن تتجه المنطقة إلى إعادة رسمٍ شاملةٍ للعلاقات والتحالفات، حيث تُربط ملفات غزة والضفة والحدود ضمن رؤيةٍ أمريكية تسعى لإعادة تموضع النفوذ مع بقاء إسرائيل في مركز المعادلة.

في كل الأحوال، تظل غزة عنوانًا لا يمكن تجاوزه في معادلة الشرق الأوسط الجديد. فكل هدنةٍ فيها، مهما بدت هشة، تُعيد فتح السؤال ذاته: هل يمكن أن تولد من رحم النار تسويةٌ حقيقية، أم أن الصراع سيبقى لغة السياسة الوحيدة في هذه البقعة الصغيرة من العالم؟
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير