جفرا نيوز -
يونس الكفرعيني
منذ أن خطّ الإنسان أولى خطواته في طريق التمدّن، وهو يحمل في قلبه معركتين لا تهدآن: معركة القيم، ومعركة المصالح، هاتان القوتان المتقابلتان – وإن بدتا في الظاهر متباعدتين – تشكلان معًا قلب الحركة الإنسانية وسرّ الحضارة، إذ لا قيام لعمران دون مصلحة، ولا دوام لإنسانية دون قيمة. وبين هذا وذاك تتشكل مأساة الإنسان الكبرى، وتُكتب ملحمة صراعه الأبدي بين ما يجب أن يكون، وما يريد أن يكون.
القيم هي البوصلة الأخلاقية التي تمنح للحياة معناها، وتُبقي للإنسان ملامحه الإنسانية، هي فكرة «الواجب» في مقابل «المنفعة»، هي نداء الضمير في وجه حسابات الربح والخسارة، وهي التعبير الأسمى عن نزعة الإنسان إلى الخير والعدل والحق.
أما المصالح، فهي تعبير عن نزعة الإنسان إلى البقاء، وإلى توسيع دوائر النفوذ، والراحة، والضمان، هي الوجه العملي للعقل حين يُخضع القيم لبراغماتيته، ويرى في كل فعلٍ ما يعود عليه نفعه المباشر أو المؤجل.
ومن هنا تبدأ الجدلية: فالقيمة تسكن الروح، والمصلحة تحكم الواقع، القيمة مطلقة، والمصلحة نسبية، القيمة تُلزم، والمصلحة تُغري، وما بين الإلزام والإغراء، يتأرجح ميزان الحضارة منذ أن عرف الإنسان معنى «الأنا» ومعنى «الآخر»، ليست القيم والمصالح مجرد أفكار متعارضة، بل هما قوتان متداخلتان في بنية الإنسان ذاته، فالفطرة البشرية تجمع بين نزعة الخير ونزعة الأنانية، بين الوجدان والعقل، بين الحلم والواقع، وحين تتسع المجتمعات، وتتشكل الدول، وتتراكم الثروات، تنتقل هذه الجدلية من النفس إلى النظام، ومن الفرد إلى المؤسسة، ومن الإنسان إلى الحضارة.
لقد قامت حضارات عظيمة على توازنٍ بين المصلحة والقيمة: فالإغريق مثلاً رفعوا قيمة الجمال والعقل، لكنهم سقطوا في هوة المصلحة حين جعلوا العبيد عصب اقتصادهم، والرومان أسسوا إمبراطورية على النظام والقانون، لكنهم خانوا قيم العدالة حين خضعت العدالة لقوة السيف، أما الحضارة الإسلامية، فقد جاءت لتُقيم ميزانًا جديدًا بين القيمة والمصلحة، بين «المقاصد» و«المنافع»، فاعتبرت أن المصلحة لا تكون مصلحة حقيقية إلا إذا انسجمت مع القيمة العليا: «درء المفاسد وجلب المصالح» في ضوء العدل والرحمة والكرامة الإنسانية.
وهكذا يتضح أن تفاعل القيم والمصالح ليس اضطرابًا عارضًا في التاريخ، بل هو جوهر تطوره ذاته، فكل نهضة إنسانية هي في حقيقتها محاولة لإعادة ترتيب العلاقة بين هاتين القوتين: كيف نُحقق مصالحنا دون أن نفقد إنسانيتنا؟
إن أخطر ما يواجه الإنسان في مسيرته الحضارية هو لحظة التنافر بين القيم والمصالح، فحين يضعف الضمير، وتتعالى لغة الربح فوق لغة الحق، تتحول المصلحة إلى أداة استغلال، ويتحوّل التقدم المادي إلى تراجع إنساني.
انظر إلى عالمنا المعاصر: لم تكن البشرية يومًا أغنى بالموارد، ولا أكثر علمًا وتقنية، ومع ذلك لم تكن يومًا أكثر اغترابًا عن ذاتها، تحت شعارات "التنمية" و"التجارة الحرة" و"الأمن القومي" تُرتكب جرائم كبرى في حق العدالة والكرامة، إنها لحظة انفصال المصلحة عن القيمة، حين يصبح الإنسان مجرد رقم في معادلة اقتصادية، ويُقاس الخير بمقدار العائد المادي، لا بمقدار النفع الإنساني، ومن هنا تتفجر الحروب، وتنهار البيئة، وتُنتج التكنولوجيا عالماً بارداً لا روح فيه، كل ذلك لأن المصلحة فقدت بوصلتها الأخلاقية، ونسيت أن قيم الحق والعدل ليست ترفاً أخلاقياً، بل شرطاً من شروط البقاء.
ورغم ندرة هذا اللقاء، إلا أنه حين يحدث، يولد من رحمه أعظم ما أنتجته الإنسانية من حضارات، فالالتقاء بين القيم والمصالح لا يعني التضحية بأحدهما، بل يعني إدراك أن القيمة الحقيقية للمصلحة تكمن في دوامها وعدالتها، وأن أعظم القيم هي تلك التي تُثمر نفعاً ملموساً.
حين التقت القيمة بالمصلحة في صدر الإسلام، وُلدت حضارة امتدت من المحيط إلى ما وراء النهر، لأنها أقامت اقتصاداً يخدم الإنسان، لا يستعبده، وحين التقت القيمة بالمصلحة في عصر النهضة الأوروبية، انفجرت الطاقة العقلية للإنسان حين قرر أن العلم في خدمة الإنسان لا في استعباده.
وحين تلتقي القيم اليوم مع مصالح الأمم في مواجهة تغيّر المناخ مثلاً، نرى نموذجاً جديداً لوعيٍ كونيٍ يدرك أن البقاء نفسه أصبح قيمة مشتركة، إذن فليست المصلحة نقيض القيمة، بل هي اختبارها العملي، وحين تنجح القيمة في أن تُوجّه المصلحة، يتحول الفعل الإنساني إلى عمران، ويتحوّل التطور إلى حضارة.
لا يمكن أن نتحدث عن هذه الثنائية دون المرور عبر ثلاثية السياسة والاقتصاد والأخلاق، فالمصلحة تتجلى في السياسة والاقتصاد، بينما تسكن القيمة في الأخلاق والضمير، والتاريخ يعلمنا أن اختلال التوازن بين هذه القوى الثلاث هو ما يصنع الأزمات الكبرى.
السياسي حين يبرر قراراته بذريعة «المصلحة الوطنية» وهو يهدم منظومة العدالة، يفصل الأمة عن روحها الأخلاقية، والاقتصادي حين يجعل من السوق إلهاً يُعبد، يحوّل الإنسان إلى سلعة بلا معنى، لكن الأخلاقي أيضًا حين ينغلق في مثاليات لا تعي الواقع، يُفقد القيم قدرتها على الفعل والتأثير، الحكمة إذن هي في الجمع بين الواقعية والمبدئية، بين المصلحة التي تُبقي على الحركة، والقيمة التي تُبقي على الاتجاه.
في تاريخ الفكر الإنساني، لطالما كانت العلاقة بين القيم والمصالح موضوع جدلٍ عميق، ميكافيللي – في الأمير – مثّل ذروة الانفصال بين الأخلاق والسياسة، حين اعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن المصلحة هي معيار الفعل السياسيين، لكن الفلاسفة اللاحقين كإيمانويل كانط ردوا على ذلك بنظرية «الواجب الأخلاقي المطلق»، مؤكدين أن الإنسان يجب أن يُعامل دائمًا كغاية، لا كوسيلة.
وفي الفكر الإسلامي، نجد محاولة فريدة للموازنة بين المصلحتين: الخاصة والعامة، فالفقيه المقاصدي كالإمام الشاطبي جعل «تحقيق المصلحة» هدفاً للشريعة، لكن في ضوء الضرورات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال، أي أن المصلحة تُقبل فقط إذا لم تُخلّ بقيمة عليا.
إن هذا التراث الفلسفي يبرهن أن المسألة ليست في رفض المصلحة، بل في تهذيبها بالقيمة، ولا في تقديس القيم بمعزل عن الواقع، بل في تفعيلها داخله، لقد أدخلت العولمة البشرية في طورٍ جديد من هذا الصراع، فالمصالح الاقتصادية العابرة للحدود صارت تتحكم بالسياسات، والثقافات، وحتى القيم ذاتها.
شركات التكنولوجيا العملاقة، على سبيل المثال، لا تحكمها فقط اعتبارات السوق، بل تُعيد تشكيل وعي الإنسان وعلاقاته، وتؤثر في مفاهيمه عن الحقيقة والحرية والهوية، وفي المقابل، تصحو القيم الإنسانية في صور جديدة: العدالة البيئية، المساواة الجندرية، الحقوق الرقمية، والكرامة الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي.
إنها محاولة جديدة من الإنسان ليعيد التوازن، وليقول إن المصلحة بلا أخلاق لا تبني مستقبلاً، بل تصنع فوضى، ولعل التحدي الأكبر اليوم هو أن نُعيد تعريف «المصلحة» نفسها: فالمصلحة لم تعد أن تربح وحدك، بل أن تبقى أنت والآخر معاً.
المصلحة لم تعد في التوسع والسيطرة، بل في التشارك والاستدامة.
المصلحة الحقيقية اليوم هي في أن تُنقذ الإنسان من ذاته قبل أن تُنقذه من أعدائه، في واقعنا العربي والإسلامي، تُطل هذه الجدلية بأوجه شتى، فنحن نعيش بين إرثٍ قيمي عظيم، وتجارب مصلحية واقعية قاسية.
كثير من أزماتنا السياسية والاجتماعية تنبع من هذا الخلل بين الشعارات الأخلاقية والممارسات العملية، بين ما نؤمن به وما نفعله، لقد تحدث القرآن بوضوح عن هذه المعادلة حين قال تعالى: "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام." فالمظهر القيمي قد يُستعمل ستاراً للمصلحة، لكن الله وحده يعلم النية، ويميز بين من يتخذ القيم وسيلة، ومن يجعلها غاية.
إن الإصلاح الحقيقي في مجتمعاتنا يبدأ حين نعيد ربط مصالحنا بقيمنا، لا أن نجعل القيم غطاءً للمصالح، فحين تتسق المصلحة مع القيمة، يتحول العمل إلى عبادة، والسياسة إلى أمانة، والاقتصاد إلى إعمارٍ حقيقي.
إن الحضارة ليست نتاج القيم وحدها، ولا ثمرة المصالح وحدها، بل هي ابن التفاعل الخلاق بينهما، فالقيمة تمنح الحضارة اتجاهها الأخلاقي، والمصلحة تمنحها طاقتها العملية، وإذا اختل أحدهما، اختلت المنظومة كلها، الحضارة التي تبني مصالحها دون قيم، قد تبلغ القمر، لكنها ستفقد الأرض، والحضارة التي تعيش على القيم دون مصلحة، ستبقى طيبة القلب، لكنها عاجزة.
لذلك فإن البناء الحضاري يحتاج إلى من يُوازن لا من يُفاضل، إلى من يدرك أن المصلحة بلا روح جفاء، والروح بلا عمل وهم، فنحن بحاجة الى وعي جديد بالعلاقة بين القيم والمصالح.
في النهاية، تظل القيم والمصالح عناصر متفاعلة بشكل دائم في الحضارة الإنسانية وحركة الإعمار البشري، وكثيراً ما تتنافر، وقليلاً ما تلتقي.
لكن هذا التنافر ليس قدراً، بل هو امتحانٌ دائم لإنسانيتنا.
فإذا استطعنا أن نجعل مصالحنا خادمة لقيمنا، نكون قد انتصرنا للإنسان فينا.
وإذا تركنا المصالح تبتلع القيم، نكون قد خسرنا المعنى وإن ربحنا كل شيء آخر.
لقد آن للإنسان المعاصر أن يدرك أن القيمة ليست نقيض المصلحة، بل روحها.
وأن المصلحة ليست عيباً، بل وسيلة إنسانية مشروعة متى خضعت لميزان الأخلاق والحق.
فالحضارة التي تدوم هي تلك التي تحسن الجمع بين القلب والعقل، بين الضمير والمنفعة، بين الروح والمادة.
وما لم نُدرك هذه الحقيقة، سنبقى نُعيد إنتاج الصراع ذاته بأشكال جديدة.
إنها جدلية لا تنتهي، ولكن فيها سرّ النهضة وسرّ السقوط.
فكلما اقتربت القيم والمصالح من التلاقي، اقترب الإنسان من تحقيق إنسانيته، وكلما تباعدتا، اقترب من فقدانها.
وهكذا ستبقى الحضارة الإنسانية، على الدوام، ساحة صراعٍ بين ضميرٍ يسعى إلى النور، وعقلٍ يطارد المنفعة، حتى يلتقيا في نقطةٍ واحدة…
حيث تكون المصلحة قيمة، وتكون القيمة مصلحة.