جفرا نيوز -
بشار جرار
مما نعيد استدعاءه من ذاكرتنا، نحن من أدركنا أيام «الأبيض والأسود»، زمن التلفزيون والمذياع الأوحد في البيت، هي تلك الأيام التي تشتد فيها الريح أو زخّات المطر والبَرَد، لدرجة تتطلّب تطوّع أحد أفراد الأسرة، للصعود إلى السطح لإعادة تثبيت أو توجيه لاقط إشارات الإرسال أو البث التلفزيوني.
المحظيون في مواقع سكناهم، تلك التي لا تحدّها عوائق طبوغرافية أو اسمنتية، كان في متناول أيديهم التقاط إشارة ما تبثه دول الجوار من إرسال.
لكن الأهم والأجمل، كان ما أخبرنا به الكثير من الأقارب في سوريانا الحبيبة أيام «ستارها الحديدي»، حيث لم تكن نكتة من نكات الكوميديا السوداء، أنه جرى اعتقال من تم ضبطهم في الثمانينيات من متابعي نشرات أخبار الأردن أي التلفزيون الأردني. تم ضبطهم متلبسين «في الجرم المشهود»! وهو نداء من فوق «الأساطيح» لسكان الشرفات أو الطابق الأرضي أو «ديار» البيت الشامي العريق بأن: وِصْلِتْ؟ فتكون الإجابة: إعادة التوجيه قليلا إلى اليمين، حتى تنطلق صيحات الاستحسان بأن إيه وِصْلِتْ؟ الصورة طَبِعْ في إشارة إلى وضوح التقاط «الهوائي» في سورية لإرسال عمّان، أخبار الأردن..
لم يكن الأمر أو ما يسمونها في أيامنا «سردية»، لم يكن الأمر يتطلب برامج حوارية، ولا تعليقا سياسيا، مجرد «نشرة أخبار» محترفة، كانت كفيلة بالعرض والرد. تقديم الخطاب الأردني وما كان فرق بين «رسمي وأهلي»، والرد على من استحقوا صرف بعضٍ من الانتباه إليهم!
لكن الهوائيات «الأنتينات»، صارت أطباقا، «دِشّات» صاجيّة في زمن الفضائيات، واستبدلت الحوارات المدروسة بعناية ما كان تعليقا على شكل «مونولوج» يسبقه ويليه طوفان من الأناشيد الحماسية كما في حقب «الإعلام» الدعائي للنظم والتنظيمات الشمولية والقمعية.
لم يعد العدو أو الخصم يقتصر أدواته على القوى الخشنة فيما نسميه اليوم القوى الناعمة للدولة، أو بالأصح النظام والتنظيم. ثمة خلطة شيطانية تُطبخ تحت جنح الظلام في دهاليز وأنفاق، ليتولى عرضها على الهواء وتحت الضوء المبالغ في شدته وبريقه الزائف فيما يعرف بالتعمية الضوئية أو «غاس لايْتِنْغ» تلك الآلية التي يعتمدها صيادو الغزلان تحديدا، عبر تسليط كشافات الضوء عليها، فتتسمّر في مكانها، مما يسهّل اصطيادها، ومن أول طلقة أو سهم غادر.
منذ أيام، انشغل الجمهور -ليس المحلي وحده- بل والجوار، بدائرة إخبارية عادت لا ينبغي لها أن تستغرق أكثر من أسبوعين. لن أدخل في تفاصيلها فهي غنية عن التعريف من كثرة الأخذ والرد فيها. ما يعنيني في هذا المقام، هو مدى خطورة الإعلام والفن والثقافة والسياحة والرياضة، كأسلحة هجومية لا دفاعية فقط، للدفاع عن حياض الوطن والمجتمع والأسرة.
الأمر في أصله قرار صرف أو الأصح استثمار.. كم من المال والجهد والوقت يستحق ما نعتبره أكبر من مجرد حاجة إلى الترفيه. لو لم يكن الحق في الضحك والبكاء وليس فقط التفكير والتعبير حقا وجوديا فطريا إنسانيا قبل نشوء المجتمعات والدول، لما كان دور حتى لمن يلعبون دور «الأراجوز أو المهرّج» في شفاء مرضى من حالات مستعصية أو التخفيف من آلامهم على سرير الشفاء. ولما ارتقى العزف على الآلات الموسيقية والترتيل والإنشاد إلى أسمى الحالات الروحية الواصلة بين الخلق والخالق سبحانه. حتى الكائنات الحية والطبيعة والوجود كله، لكل ناموسه وموسيقاه ورسوماته وألوانه. إنها قصة وجود وإيمان قبل أن تكون واجبا من حق الناس أن يبذخ عليها القادرون من القطاعين الخاص والعام. الترفيه والتنوير والتعبئة ليست مهام يسيرة، وما هي بالعسيرة في موازين الحقوق والواجبات وإن اشتكى البعض عسرا في أسبابها المادية.
كمؤمن بالتيار المحافظ المناهض لليسار، أجد نفسي من الداعين إلى الخصخصة المطلقة للقطاعات الإبداعية والخدماتية وتحويل الحكومي منها إلى المفهوم العمومي العابر للحكومات العصي على التأثر بتوجهاتها والأكثر انتماء وولاء للدولة والناس (فرديا ومجتمعيا). هذا لا يُخلي الحكومة من مسؤولياتها، وكذلك البرلمان، وحتى الأحزاب والجمعيات بأنواعها، بما فيها اللجان الشعبية العفوية «الوظيفية التطوعية التعاونية» على مستوى سكان عمارة أو حي سكني.
تميزت بلاد فقيرة عالميا، وكذلك لاعبون وفنانون وأدباء وعلماء خرجوا من أكثر الظروف المعيشية قسوة. شح المال وضيق ذات اليد، بما فيها تلك اليد المرتجفة إداريا أو الفاسدة لا قدّر الله، ليست عذرا، وإن كانت، فهي أقبح من ذنب.
لكن أمام ما يبذخ من مال من قبل بعض الأطراف على مظاهر احتفالية موسمية، من حق الجميع أن يتساءل ما هو ذلك الطيف الرمادي الفاصل بين الفساد والإفساد، وسوء الإدارة والظلم..
بكل الأحوال كرامات من يمثلون البلاد في إبداعاتهم -أيا كان ميدانها- حتى وإن كان ذلك العطاء والإبداع قديما محفوظا في أرشيف «الأبيض والأسود»، هي أمانات في أعناقنا جميعا، خاصة القطاع الخاص، وعلى نحو أكثر تحديدا، زملاء المهنة ورفاق السلاح، سلاح الكلمة والصورة التي تعدل طلقة وقذيفة وصاروخا، قد يكلف الملايين..
ها قد سقط الذين كانوا يعتقلون الناس «فوق الأساطيح» بتهمة توجيه «الأنتينات» خارج الحدود بحثا عن نسائم الحرية والخبر الصادق الأمين. قد يتطلب إصلاح الكثير من القطاعات الحيوية ومن بينها الصحافة والإعلام والثقافة، ليس إعادة تدوير، بل إعادة توجيه، حتى تطلع الصورة طَبْعْ، طبق الأصل..