جفرا نيوز -
بشار جرار
يشكو القرّاء من ظاهرة القص واللصق. هي في أحسن الأحوال مؤشر على كسل القاص اللاصق، وفي أسوئها، سرقة محتوى على نحو خارق لقوانين المُلكية الفكرية وأعرافها!
لكن المقلق على الطريقة الأممية كما في بيانات الشجب والإدانة والاستنكار، هو تفشي ظاهرة التكرار حتى وإن كانت قصا ولصقا بمفردات أو تعبيرات تبدو مختلفة عما هو عمليا طبق الأصل.
بعيدا عن الجانب الرسمي في أي تفاعل، خاصة على منصات ما يفترض أن تكون ساحة مفتوحة للتواصل الاجتماعي، يكاد يكون التكرار الصفة الغالبة عالميا. قلّما تجد ما يرقى إلى مستوى الابتكار.
ما ضير صاحب هدف نبيل ورؤية ترى ما وراء الأحداث اليومية، ما ضيره أن يكف عن التكرار ويبادر بالابتكار، أقله في التعاملات الإنسانية الواجب أن تبقى مصانة مصونة، حصينة منيعة من التسييس، والتديين، والأدلجة؟
لن أهرب بالأمثلة البسيطة الخفيفة الحيادية الرمّادية بدرجاتها، بل أستأذن القراء الكرام الدخول إلى بعض المناطق الصفراء المحمرة، وحتى شديدة الاحمرار.
من الأمور الرائجة مثلا، التعميم والاستعداء المبرر أو غير المبرر أو المبالغ فيه، مع كل ما صنفته «صحافة» اليسار والعولمة بأنه «يميني». طبعا الصفة اللاحقة دائما هي «المتطرف».
من التكرار المؤذي سياسيا، بكل ما لذلك من تبعات اقتصادية ومالية وإعلامية، هو المساواة بين ما يصنف كيمين أو يمين متشدد أو متطرف، على الساحات كافة. فيقاس يمين على الساحة الأوروبية بالأمريكية بالشرق أوسطية، وتلك نظرة لا تخدم سوى تعميق الاصطفاف، وبالتالي توسعة دائرة التحالف الذي من التكرار أيضا الشكوى منه في قضايا شرق أوسطية!
اليمين أصلا توصيف لمؤيدي الملك ومعارضيه في أعرق الديموقراطيات البرلمانية في العالم، المملكة المتحدة حيث كان يجلس الموالون على يمين الملك في البرلمان، والمعارضون على يساره. وتلك قسمة لا اقتراب فيها ولا شبهة، من الانتماء للوطن، والولاء غير القابل للقسمة له.
لماذا استساغ واستحسن ما صنعت منه «الصحافة» الموجّهة -بفتح الجيم وكسرها- رأيا عاما سموه «رجل الشارع»، استحسنوا إلى حد «الصنمية السياسية»، الأممية الاشتراكية والفاشية القومية أو الدينية؟
لِم هذا الغياب الخطر عن المحافل الإقليمية والعالمية اليمينية؟ وكأنها سُبّة أو شبهة. كثير من منطلقات اليمين في العالم كله، بمن فيهم المصنفون كأعداء وخصوم ومنافسين، تكاد تكون متطابقة، وفي بعض الحالات متقاطعة، وقلما تكون متناقضة. وإن كانت كذلك، فهي قابلة للتسوية أو المهادنة أو حتى الترحيل إلى أجيال قادرة على التفاهم وحل ما استعصى علينا لأي سبب كان، سواء أكان ما اعتدنا عليه من التذرع ب «موازين القوى» أو «ازدواجية المعايير».
الحق والحقيقة ليست حكرا على أحد، ف «فوق كل ذي علم عليم». وكذلك يقاس بالمقولة عينها بالإشارة إلى الحكيم. تقتضي الحكمة عدم إخلاء الساحة. ومن موجبات نجاحها الاشتباك الإيجابي. ولا مندوحة عن استهلاله بما هو إنساني وحضاري، كاغتنام المناسبات الجامعة للروح والأخلاق بين شتى الأمم والشعوب، لتبادل التهاني أو التعازي.
للأمانة، ورغم إيماني اليقيني المطلق بذلك، إلا أنني ولِما تقتضيه أيضا الحكمة والمعرفة ببواطن الأمور، أتخيّر المنصات والحسابات وحتى اللغة المستخدمة -بالعربية أو الإنجليزية- لأداء ما أراه واجبا وليس مجرد حق في التعبير.
من ينفخون في كير الجهل والخوف والكراهية استسهلوا تكرار القوالب «الكليشيهات» المستوردة من حقب «الثوريين» العابرين للحدود، ومن لحق بهم بالمفردات والتعبيرات المقيتة عينها ممن يسمون أنفسهم «مقاومون أو ممانعون»! من تلك الكليشيهات التندر من «المطبعين» والتنمّر عليهم، حتى وإن كان الأمر في حدود إعادة نشر إنجاز علمي، أو تفاعل مع كارثة أو حادث طبيعي أو بشري، لمن نراه عدوا أو خصما أو منافسا.
يدرك أولئك أن كثيرا من الضخ الإعلامي العدائي التحريضي إنما هو صادر عن مواقع ومنصات وشاشات تمولها نظم منخرطة -ومنذ عقود- بما هو نقيض لما تبث أدواته من دعايات. فلِم هذا الإصرار على الخطاب المزدوج الذي يظن القائمون عليه بأنه قابل للحل والخداع مع تعدد المنابر أو لغاتها بحسب الجمهور المستهدف؟ فهنا يسمى ميت بشهيد وهناك بقتيل! هنا يصف الهجوم بعملية وقد يضاف إليها استشهادية أو فدائية، وهناك لا تُستخدم سوى كلمة واحد «محايدة، موضوعية» بمعنى صحافة «حرة ونزيهة» فتصير تلك العملية مجرد هجوم «أتّاك»! وهل أتاكَ خبر من أدانه سرا، وكبّر وهلّل له علنا؟!
ومن خلف مصدّري تلك الخطابات المتباينة إلى حد التناقض الصارخ، ترى صفوفا من المنخرطين بالتواصل الإنساني والأكاديمي والإعلامي. وكل شيء أمام الكاميرات وخلفها بما تكرس له المليارات، فيما يستهدف في حياته ورزقه وسمعته من أراد إقامة الجسور بدلا من نسفها!
السياسة «فن الممكن» كما يقال، لكنه في بعض الحالات فنّا تشكيليا، بحاجة إلى فهم رموز قد تبدو طلاسم لا يفك شفرتها إلى قارئ «عبق اللون» كما أبدع الفنان الأردني الشهم سهيل بقاعين في تعريف المكفوفين وضعاف النظر بالألوان عبر حاسة الشم. ماذا لو تم توظيف طاقات الخيّرين الإبداعية في الاشتباك الإيجابي الحضاري مع اليمين -بالنور وتحت الشمس- يا أهل اليمين؟
جعلنا الله من أهل اليمين، أجمعين؟ وقد تم بعون الله. قبل أيام، منحت ثقتي في اقتراع مبكر لانتخابات تحين رسميا مطلع نوفمبر، منحت صوتي لقائمة من المرشحين الجمهوريين المحافظين -اليمينيين- في ولاية فيرجينيا. مرشحتا الحزبين لتولي منصب حاكم الولاية -منصب يعادل قائد دولة- تمثلان يسار الديموقراطيين، ويمين الجمهوريين. الخيار كان سهلا للمستقلين والمتأرجحين أيضا، الثقة لا علاقة لها لا بحركة «ماغا» ولا «ماها»، التصويت كان لصالح من تحمي الأطفال طلبة المدارس في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، تحمي خصوصية الطلاب من تغول اليسار المنحل المختل الذي يريد أن يقحم انحرافه وتطرفه حتى في دورات المياه -الحمّامات- وغرف تغيير الملابس، في المدارس والصالات الرياضية. مرشحة «اليمين» تتعهد لأولياء الأمور بأن تحمي فلذات أكبادهم من «الجنس الآخر» الذي يزعم أنه من زُمَر «المتحولين والمنقلبين»، المنقلبين على خلق الله سبحانه، جلت قدرته وحكمته، وعلى الفطرة الإنسانية والكائنات الحية!
التصويت جاء أيضا لحماية الأجنة حتى ما بعد الولادة من القتل المسمى الإجهاض. اليمين يؤمن بقدسية حياة الجنين ويرفض دعوة اليسار بأن الإجهاض حق حصري للأم متى أرادت ذلك ودون إبداء الأسباب!
الحديث يطول في الفوارق بين اليمين واليسار، علّ مرددي تلك المصطلحات الذين ينزعون إلى التعميم، «علّ وعسى» أن يكفوا عن استعداء اليمين، فقط لأنه محافظ، يؤمن بالله والأسرة والوطن (البلد). وهو شعار اكتسب زخما غير مسبوق عالميا، ولله الحمد..