النسخة الكاملة

إيقاعات قديمة في زمن جديد

الإثنين-2025-09-29 10:14 am
جفرا نيوز -
فراس زقطان


يجيد الفنان الذكي عرض أدواته، يجيد اختيار اللحظة التي يغيّر فيها شكله، يجيد صناعة الأسئلة وطرح البدائل. و حتى نفهم 
الفنان الذي يطوّر نفسه وأدواته، الفنان الذي يتحكم بأزمته ويديرها ويعيد إنتاجها، لا بد أن نراه وهو يضع نفسه تحت المجهر قبل أن يضعه أحد غيره، وهو الذي يقرر أن اسلوبه القديم لم يعد صالحاً، وأن أدواته التي اعتاد عليها صارت بطيئة، وأن جمهوره يحتاج إلى مفاجأة، لا إلى أداء محفوظ.

يقول الفنان الذكي لجمهوره الذي يراقب تطوره لا ضرورة لأن أعيد ما رأيتموه عشرات المرات، لا ضرورة لتكرار شكل الشخصية نفسه، لا ضرورة لأن أعيش على رصيد نجاحي القديم، ولا أن أكتفي بالتصفيق الذي حصلت عليه قبل عقود، ولا أن أعيد إنتاج ذات الاداء الذي استهلكه في كل مرة. ستراني في شكل جديد و إيقاع مختلف.

ستنقذ هذه الفكرة فناً يحتضر وتعيده إلى الحياة، ستجتذب جمهوراً شاباً يهرب من الملل، وستضيء الجدال حول جدوى الفنون، وستفتح أسئلة كبرى حول احتكار المنصات و المواقع ودوائر الدعم الرسمية والخاصة، وستحرج المؤسسات التي تحوّلت إلى مجالس شخصية تنتج و تختار بعقلية منفصلة عن الواقع.

بالنسبة إلى الفنان الكسول، سيكون الأمر مختلفاً وصادماً، وقد يبدو تهديداً مباشراً لمكانته، لأنه سيكشف هشاشته، وسيظهر أن كل ما يقدمه اليوم ليس إلا إعادة تدوير لنجاح قديم. ثمة خشية حقيقية من أن يتحول هذا التجديد إلى حركة واسعة تطيح بجيل كامل من الأسماء التي ورثت المنصة ولم تغادرها.

وهذا ينطبق على الفنانين الكبار الذين لم يطوّروا أدواتهم، سيجدون أنفسهم أمام السؤال الذي لم يواجهوه منذ عقود: ماذا سيفعلون الآن؟ سيكتشفون أن رصيدهم القديم لم يعد يحميهم، وأن المنابر التي ظنوا أنها حكر لهم أصبحت مفتوحة لأصوات جديدة، وأن جمهورهم الذي كان يصفّق لهم بدافع الاحترام صار يقارنهم بفنانين أصغر سناً وأكثر جرأة، وأن كرسي التكريم الذي يجلسون عليه منذ سنوات لم يعد مقنعاً لجمهور لا يكتفي بالمجاملات. أمامهم خياران: إما أن يلحقوا بالركب ويعيدوا اكتشاف أدواتهم، أو أن يخرجوا من المشهد بهدوء قبل أن يُخرَجوا بالقوة وبالضحك والسخرية.

لقد صنع الفنان الذكي أزمته واستثمر فيها، دخل من ثغرة الملل الذي أصاب الجمهور، ومن غياب المنافسة الحقيقية، ومن انطفاء المواهب على المنصات الرسمية، ومن غياب الجرأة على المغامرة. دخل من هذه الثغرة التي اتسعت من دون أي محاولات حقيقية لإعادة تعريف معنى الفن والتمثيل، بحيث تحولت الآن إلى هذا الركود، فإذا به يفتح الباب على عاصفة تجديد لا يمكن تجاهلها تشبه عاصفة نورا في بيت الدمية التي غيرت عقلية أوروبا الكلاسيكية.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير