جفرا نيوز -
بقلم - يونس الكفرعيني
في جغرافيا مثقلة بالجراح مثل قطاع غزة، حيث الحرب تتربّص بالإنسان قبل العمران، وحيث الحصار يحوّل أبسط تفاصيل الحياة إلى معركة بقاء، يطلّ الأردن بوجهه المشرق ليقول لأهل غزة: "لسنا بعيدين عنكم، فأنتم نبض القلب وامتداد الروح". وفي مقدمة صور هذا الحضور، تتربع المستشفيات الميدانية الأردنية التي أقامها الجيش العربي في قلب القطاع، كجبهة إنسانية متقدمة، تحاكي صوت الواجب وتخاطب ضمير الأمة.
حين يفكر البعض في المستشفى الميداني، يتخيل خيمة بيضاء أو وحدة طبية متنقلة تداوي بعض الجراح. لكن الواقع في غزة يختلف؛ فإقامة مستشفى ميداني هناك تعني مواجهة تحديات لوجستية هائلة، تبدأ من إدخال المعدات والأدوية عبر معابر شديدة التعقيد، ولا تنتهي عند توفير الأمن للطواقم الطبية وسط بيئة محفوفة بالمخاطر. إنها عملية تُشبه في دقتها وحساسيتها العمليات العسكرية، لكن غايتها هنا إنسانية خالصة: إنقاذ الأرواح.
ولذلك، فإن كل طبيب وممرض وضابط إداري يخدم في هذه المستشفيات، يُدرك أنه ليس فقط في مهمة مهنية، بل في واجب
وطني محفوف بالخطر. ومع ذلك، يختار الأردنيون المضي قدمًا، لأن القيم التي تربّوا عليها أقوى من هواجس الخوف.
إقامة مستشفى ميداني أردني في غزة لا يمرّ بقرار إداري بسيط. إنه قرار يضع الأردن في مواجهة اختبارات دبلوماسية حساسة، إذ يتطلب تنسيقًا دقيقًا مع أطراف عديدة، ومفاوضات تفتح الأبواب لعبور المستلزمات الطبية والكوادر البشرية. لكن الأردن، بقيادته الهاشمية، اعتاد أن يحوّل هذه العقبات إلى فرص لتجسيد رسالته: أن يكون جسرًا للخير في منطقة أنهكتها النزاعات.
إن هذه المستشفيات ليست مجرد مبانٍ متنقلة، بل رمزية دبلوماسية تؤكد أن الأردن يملك القدرة على أن يحضر في أصعب الظروف، دون أن يتخلى عن إنسانيته أو عن مسؤوليته التاريخية تجاه فلسطين.
قد تتعدد المبادرات الإنسانية، لكن ما يجعل المبادرة الأردنية مختلفة هو مكانتها في وجدان سكان القطاع فالغزيون ينظرون إلى المستشفى الميداني الأردني كبيت ثانٍ، وكنافذة أمان وسط عاصفة الحرب. إنهم يعرفون أن اليد الأردنية التي تمتد إليهم لا تسعى إلى مصلحة سياسية ضيقة، ولا إلى دعاية مؤقتة، بل تتحرك بدافع المصير المشترك، ووشائج الدم والقربى.
كثيرون من سكان غزة يحكون قصصهم عن ولادات تمت تحت سقف المستشفى الأردني، وعن جروح اندملت بفضل طواقمه، وعن لحظات طمأنينة شعروا بها حين رأوا شعار الجيش العربي على صدور أطباء وممرضين. إنها ذاكرة جماعية تتشكل يومًا بعد يوم، وتحوّل المستشفى من مبادرة صحية إلى رمز وجداني يتوارثه الناس.
الدور الأردني في غزة لم يتوقف عند حدود الطبابة. فالمشهد أوسع بكثير: قوافل المساعدات التي يشقّ طريقها رغم التعقيدات والحصار، المخابز الأردنية التي تعمل بطاقة إنتاج يومية ضخمة لتأمين الخبز، وهو أكثر ما يحتاجه الإنسان في أوقات الأزمات، عمليات الإنزال الجوي التي كسرت قيود الحصار، وأسقطت الغذاء والدواء فوق رؤوس من حُرموا حتى من حقّ التنفس، هذه المبادرات المتكاملة تشكّل شبكة إنسانية أردنية، يراها العالم ويشهد لها، وتؤكد أن الأردن لم يأتِ إلى غزة لالتقاط صورة أو لترك بصمة عابرة، بل ليؤسس حضورًا مستمرًا وفعّالًا.
قد يسأل البعض: لماذا يصرّ الأردن على خوض هذه المخاطر، وهو يملك ما يكفيه من تحديات داخلية؟ والإجابة تكمن في جوهر الهوية الأردنية: أن يكون الإنسان أولًا، وأن تكون فلسطين دومًا قضية الأردن المركزية، إن المستشفى الميداني في غزة ليس فقط وحدة طبية، بل هو ترجمة عملية لرسالة الدولة الأردنية التي اختارت أن تكون وفية لقيمها، مهما بلغت التحديات. هو امتداد لتاريخ طويل من الدعم، بدأ منذ النكبة، ولم ينقطع يومًا.
عندما ننظر بعمق إلى هذه المبادرة، نكتشف أنها تحمل أكثر من بعد: بعد إنساني: إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة، وبعد وطني: تجسيد صورة الأردن كدولة مسؤولة عن محيطها وقضايا أمتها، بعد دبلوماسي: إثبات قدرة الأردن على العمل في بيئات شديدة التعقيد، بعد رمزي: تعزيز الثقة بين الشعوب، وترسيخ أن العلاقة الأردنية-الفلسطينية ليست علاقة جوار فقط، بل علاقة مصير مشترك.
قد تُطوى صفحات الحروب، وقد تُنسى الكثير من تفاصيلها، لكن أهل غزة لن ينسوا المستشفيات الميدانية الأردنية التي فتحت لهم أبواب الرحمة وسط أبواب النار. ولن ينسوا أن هناك جيشًا اسمه الجيش العربي الأردني جاءهم لا ليقاتل، بل ليُضمد، لا ليهدم، بل ليبني.
إنها قصة وطنٍ صغير بحجمه، كبير بقيمه، لم يسمح لحدوده أن تحدّ من عطائه، ولم يسمح للظروف أن تكسر إرادته. قصة تقول ببساطة: هنا الأردن… حيث يتقدّم الواجب على الخوف، والإنسان على السياسة، والرحمة على الصمت.