جفرا نيوز -
بقلم: يونس الكفرعيني
أعترف أنني أكتب إليك الآن، وأنا مثقل بشيء من الضجيج. ضجيج لا تراه عيناك، لكنه يملأ رأسي كأزيز النحل. ضجيج الأخبار العاجلة، وضجيج الحوارات الفارغة، وضجيج الشاشات التي لا تنام. أكتب إليك وأنا أشعر أن العالم صار أكثر صخباً من أي وقت مضى، وكأننا نسير جميعاً في شوارع مكتظة، نصطدم ببعضنا البعض ولا نرى وجوهنا من فرط السرعة والعجلة.
لقد بتُّ أؤمن أننا لن نعبر إلى حالة الهدوء والسكينة إلا بمرورنا عبر جسر الصمت. نعم، جسر الصمت هو الطريق الخفي الذي يربطنا بأنفسنا، ويمد خيوط السلام بيننا وبين هذا العالم الذي لا يهدأ.
هل لاحظت يوماً كم الأصوات التي تطرق سمعك منذ لحظة استيقاظك وحتى لحظة نومك؟ منبه الهاتف، أصوات الإشعارات، أخبار العالم التي تتساقط علينا كالمطر، ضجيج الشوارع، ضجيج العمل، وحتى ضجيج الأفكار في رأسك. صرنا نحيا في بيئة لا تسمح لنا بالتقاط أنفاسنا.
الضجيج أصبح مثل موج البحر، يعلو ويهبط، لكنه لا يتوقف.
هذا الضجيج المستمر يجعلنا نعيش في حالة من التوتر الدائم. نشعر بالقلق حتى دون سبب واضح، ونفقد التركيز على أبسط الأشياء. وحين نحاول الهروب، نهرب إلى المزيد من الضجيج: نفتح شاشة أخرى، نبحث عن خبر آخر، نغرق في محادثة لا ضرورة لها. وكأننا نخشى مواجهة الصمت لأنه يكشف هشاشتنا الداخلية.
الصمت يا صديقي ليس مجرد غياب للأصوات. الصمت هو حالة امتلاء، امتلاء بالوعي. عندما تصمت، تبدأ في سماع ما لم يكن مسموعاً: صوت نفسك، صوت قلبك، وحتى صوت العالم من حولك لكن دون تشويش.
لقد جربتُ هذا بنفسي. في لحظات قليلة كنت أطفئ فيها كل شيء، أجلس على كرسي وحيد في غرفة هادئة، أغمض عينيّ،
وأستمع فقط إلى أنفاسي. كان الأمر في البداية غريباً، بل مخيفاً. شعرت أن رأسي امتلأ بأصوات الأفكار المؤجلة، وأحاديث لم أجب عليها، وذكريات لم أواجهها. لكن شيئاً فشيئاً، بدأ ذلك الضجيج الداخلي يهدأ. أصبح الصمت أشبه بمرآة صافية أرى فيها نفسي بوضوح لم أعهده من قبل.
من يظن أن الصمت ضعف لم يجرّبه بعد. الصمت قوة. هو الذي يمنحك القدرة على التحكم في ردود أفعالك، على ألا تقول ما ستندم عليه، وألا تتخذ قراراً في لحظة انفعال. الصمت يعلّمك كيف تصغي، وكيف تفهم ما وراء الكلمات.
كم من نزاع كان يمكن أن يُحل لو أن طرفيه صمتا للحظة وتأملا قبل الرد! وكم من قرار مصيري كان يمكن أن يكون أهدأ وأكثر حكمة لو مرّ عبر جسر الصمت قبل أن يُعلن!
أكتب إليك وأنا أعلم أن الدعوة إلى الصمت في زمن السرعة ليست سهلة. نحن نعيش في عالم يكافئ الضجيج: من يتحدث أكثر يُسمع أكثر، ومن يظهر أكثر يُتَابع أكثر. لكن الثمن باهظ. كلما ازداد ضجيجنا الخارجي، ازداد صمتنا الداخلي، وصارت أرواحنا عطشى للهدوء.
جسر الصمت لا يعني أن نهجر الحياة وننعزل في الجبال. لا، أبداً. هو أن نتعلم أن نصنع مساحات صغيرة من الصمت وسط هذا الضجيج. أن نطفئ الهاتف ساعة قبل النوم، أن نجلس مع أنفسنا خمس دقائق في الصباح دون أي مؤثر خارجي، أن نمشي في الشارع دون سماعات، أن نصغي لأصوات الطبيعة ولو كانت بعيدة.
تأمل في سيرة الحكماء والفلاسفة. ستجد أن لحظاتهم الفاصلة كانت غالباً لحظات صمت وتأمل عميق. بوذا تأمل تحت شجرة حتى تنويره، سقراط كان يصمت طويلاً قبل أن يجيب، والنبي محمد ﷺ كان يتحنث في غار حراء في صمت عميق قبل نزول الوحي. كل هؤلاء لم يجدوا أجوبتهم في ضجيج العالم، بل في صمت الداخل.
أنا لا أكتب لك اليوم لأحدثك عن الصمت كفكرة رومانسية. بل أدعوك لعبور هذا الجسر فعلياً. جرب أن تصمت قليلاً اليوم.
أطفئ كل مصادر الضجيج لدقائق، اجلس مع نفسك، وراقب ماذا سيحدث. قد يكون الأمر في البداية مربكاً، لكنك ستكتشف مع الوقت أن الصمت ليس خواءً، بل هو بداية امتلاء جديد.
إن عبور جسر الصمت ليس هروباً من الحياة، بل هو عودة إليها بوعي أكبر. حين تعود من لحظة صمت، تصبح أكثر قدرة على مواجهة العالم، على اتخاذ القرارات الصائبة، وعلى أن تعيش بسلام حتى وسط الضجيج.
أصدقك القول: كلما مررت عبر جسر الصمت، شعرت أنني أعود أكثر صفاءً، أكثر حباً للحياة، وأكثر تفهماً للآخرين. الصمت ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها. إنه المفتاح الذي يفتح لك باب الطمأنينة.
فلنجرب معاً، أنت وأنا، أن نمنح أنفسنا حق العبور عبر هذا الجسر مرة كل يوم. ربما نكتشف أن الطمأنينة التي نبحث عنها لم تكن غائبة أبداً، بل كانت تنتظرنا عند الضفة الأخرى من الصمت.