جفرا نيوز -
بقلم - يحيى الحموري
في صمتٍ خانقٍ يلفّ البلاد، تتسلّل إلى صدورنا غصّةٌ كالحجر، إذ نرى الوطن وقد تحوّل إلى وليمةٍ على موائد الذئاب. ينهشون من لحمه بلا وجل، يعبّون من خيراته بلا حياء، ثم يخرجون على الناس بوجوهٍ مزيّنة بالكذب، كأنهم ملائكةُ الرحمة، وما هم إلا غربانٌ تحوم على الخراب.
هؤلاء الذين شبعوا حتى التخمة، واغترفوا من مقدّرات الأرض حتى لم يُبقوا منها إلا قشوراً يابسة، لم يعرفوا من الوطنية إلا شعاراتها، ولا من الرجولة إلا ظلالها. تراهم يتنقّلون بين المناصب كما يتنقّل التاجر بين أسواقه، يبيعون الولاء لمن يدفع أكثر، ويشترون الصمت بثمنٍ بخس من كرامة الشعب.
لقد شيّدوا لأنفسهم أبراجاً من المال الحرام، وبنوا لأبنائهم عروشاً في أرقى الجامعات والمناصب، وتركوا الوطن يسير حافياً على شوك الفقر والديون. وإذا مرضوا، فتحت لهم خزائن الدولة أبوابها إلى مشافي لندن وباريس وبرلين، بينما يموت المواطن على أعتاب مستشفى حكوميّ لا يجد فيه سريراً ولا دواء.
يا للهول! حتى حين ابيضّت لحاهم، وأوشكوا أن يُحملوا على الأعناق إلى القبور، ما زالوا يعبدون الدنيا عبادة الأوثان، يتشبّثون بسلطةٍ زائفة ومجدٍ مزيّف، كأنما كتب الله لهم الخلود في هذه الأرض. لم تردعهم شيخوخة، ولم تذكّرهم أمراضهم بأن الآخرة أقرب إليهم من حبل الوريد.
أيها المنافقون المتلونون، أما آن أن تفهموا أن التاريخ لا يُكتب بالحبر، بل يُكتب بالدموع والدماء؟ أما آن أن تدركوا أن الشعب لا يُخدع مرتين، وأن ذاكرته أطول من أعماركم وأشد صلابة من قصوركم؟!
إن ما يُبكي القلوب ليس فسادكم فحسب، بل صمتكم يوم كان الكلام فرضاً، وضجيجكم يوم صار الصمت حكمة. أنتم شهود زورٍ على عصرٍ ملطّخ، وحين تدّعون البطولة بعد أن خنستم دهراً، فإنكم لا تجلبون لأنفسكم إلا سخرية الناس ولعنة التاريخ.
يا جلالة الملك، يا حامل أمانة هذا الوطن، لم يعد في الجسد متّسع لطعنات جديدة. لقد استنزفونا حتى آخر قطرة، وأغرقونا في ديونٍ تئنّ لها الجبال. آن أن تُجتثّ هذه الأيادي الآثمة التي حولت الدولة إلى شركة أسهم، يقتسمون أرباحها في الغرف المظلمة ويتركون الخسائر للفقراء.
إن الشعب اليوم لا يطلب معجزات، يطلب محاسبةً تليق بتاريخ الأردن وشرفه، يطلب أن يُحمل هؤلاء إلى منصة الحقيقة، لا إلى مقاعد جديدة يبيعون فيها أوهاماً أخرى.
الوطن يا سيدي لا ينهض بالتجّار، ولا يحيا باللصوص، إنما يُبنى بالرجال الأوفياء الذين يعرفون أن المناصب تكليف لا تشريف، وأن الدولة ليست غنيمةً بل أمانة. فطهّروا جسد البلاد من هذه الطفيليات قبل أن تتحوّل الأوطان إلى مقابر، وقبل أن يكتب التاريخ أننا كنّا شهوداً على جريمةٍ بلا عقاب.