النسخة الكاملة

في حضرة الخشبة: الحركة المسرحية في الأردن صوت الفرد.. صدى المجتمع

الخميس-2025-07-31 11:01 am
جفرا نيوز -
رنا حداد

في الأردن، ليست الخشبة مجرّد منصة تقف عليها الأجساد وتُلقى منها النصوص، بل هي مساحة حوار، ومرآة تعكس التناقضات والتحولات، بل وتُعيد صياغة الأسئلة. الحركة المسرحية الأردنية، وإن بدأت بخطى متواضعة، استطاعت أن ترسّخ لنفسها هوية خاصة، تجمع بين التراث والحداثة، وبين المحلية والإنسانية، حتى بات المسرح جزءًا حيًا من النسيج الثقافي والاجتماعي في البلاد.
من عمّان إلى إربد، مرورًا بالزرقاء والكرك ومأدبا، تعدّدت التجارب وتنوّعت الرؤى، لكنّ القاسم المشترك كان دومًا: الإيمان العميق بدور المسرح في فهم الذات الإنسانية، وطرح القضايا الاجتماعية، وبناء حوار حضاري مع الآخر.

وقد جاءت مهرجانات المسرح لتشكل محطات نوعية في هذه الرحلة، من أبرزها مهرجان المونودراما العربي، الذي انطلق بثقة وجرأة، ليمنح للعرض الفردي بُعدًا جديدًا، لا كنوع مسرحي قائم بذاته فحسب، بل كأداة مكثّفة للتعبير عن الهمّ الإنساني.

منذ دورته الأولى، تميّز هذا المهرجان بقدرته على استقطاب عروض وتجارب متعددة، أردنية وعربية، جمعت بين بساطة الشكل وعمق الطرح. على مدار دوراته، لم يكن مهرجان المونودراما مجرّد مناسبة فنية، بل رحلة لاكتشاف عالم إبداعي يخاطب النفس البشرية بكل تعقيداتها، ويعيد مساءلتها بعيدًا عن الشعارات الجاهزة.

في تغطيتي الإعلامية للمهرجان عبر دوراته الثلاث، وقفت على عروض تنبض بالحياة رغم قلة الأدوات، تحفر عميقًا في الذاكرة الفردية والجماعية، وتعيد طرح الأسئلة القديمة: من نحن؟ ما الذي نخشاه؟ وأي معنى يمكن للفن أن يمنحه للحياة؟ شاهدتُ كيف يمكن لممثل واحد على الخشبة أن يخلق عوالم متكاملة، ويُحرّك جمهورًا كاملًا بكلمة، أو صمت، أو نظرة.

لقد احتضن المهرجان نصوصًا تعالج قضايا الهجرة، المرأة، الحرب، الحرية، وأزمة الهوية. وكان لافتًا أن معظم العروض قدمت من وجهة نظر فردية، لكنها لامست قضايا جماعية، ما جعل من كل عرض جلسة تأمل في الذات والمجتمع.

ولا يمكن الحديث عن هذه الحيوية المسرحية دون التوقف عند الدور المتزايد للشباب والنساء في صياغة ملامح المشهد المسرحي الأردني المعاصر. فقد برز جيل جديد من المسرحيين، يؤمنون بأن المسرح ليس ترفًا بل وسيلة للتغيير، ويخوضون تجارب جريئة في الإخراج والتمثيل والكتابة، بأساليب حداثية تعبّر عن نبضهم وهواجسهم. عروضهم، لا سيما ضمن مهرجان المونودراما، كشفت عن طاقات تمثيلية وكتابية واعدة، قادرة على تقديم محتوى عميق بوسائط بسيطة.

أما الحضور النسائي، فقد كان أكثر من مجرّد مشاركة؛ بل كان حضورًا مؤثرًا ومركزيًا. فنانات أردنيات قدّمن عبر الخشبة نماذج متنوعة للمرأة: الصامدة، والمتمرّدة، والباحثة عن ذاتها. وعلى مستوى الإخراج والكتابة، أثبتت المرأة حضورها برؤية فنية ناقدة وشجاعة، قادرة على كسر التابوهات والانحياز للحقّ الإنساني في التعبير والوجود.

ولعلّ ما يميّز المشهد المسرحي الأردني عمومًا، والمونودراما تحديدًا، هو قدرته على التجدد رغم التحديات. فنانون ومخرجون وكتاب، يواصلون المحاولة في ظل ظروف إنتاج محدودة، لأنهم يؤمنون بأن الفن ليس ترفًا، بل ضرورة، وبأن المسرح ليس فقط وسيلة للتسلية، بل أداة فعالة للتنمية الثقافية والاجتماعية.

بمساحة جميلة راقية تكسر الضجيج البصري والسطحية الرقمية، يأتي المسرح – وتحديدًا المونودراما – ليُعيدنا إلى جوهر الإنسان: الكلمة، الجسد، الروح. وفي الأردن، هذه العودة لا تزال تتشكّل، تنضج، وتثمر.

ختامًا، يمكن القول إن الحركة المسرحية في الأردن تسير بثبات، وبشغف، نحو مزيد من الحضور والتأثير. ومهرجان المونودراما المسرحي الأردني، بما يوفره من منبر للتجريب والتعبير، ليس مجرد حدث سنوي، بل هو دعوة دائمة للتأمل، والتجدد، والتحليق بعيدًا في فضاء الفن والإنسان.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير