عندما تفكر النجاة: فلسفة الخلاص الإنساني المدفونة فينا
الإثنين-2025-04-14 02:27 pm
جفرا نيوز -
بقلم: يونس الكفرعيني
في لحظة سكون نادرة وسط ضجيج العالم، تسمع صوتًا خافتًا ينبعث من أعماقك. لا هو بالصوت المألوف، ولا هو من تلك الأصوات التي تُدوّن على الورق أو تُروى في الحكايات. إنه شيءٌ أشبه بنداء قديم، نداء لم تفهمه يومًا بالكلمات، لكنه كان هناك دومًا، يهمس بأن شيئًا في هذا العالم يحتاج إلى إصلاح… وأن هذا الشيء، يبدأ من داخلك.
ما الذي يجعل الإنسان، وهو أضعف الكائنات جسدًا، يحمل في قلبه هاجس النجاة لكل البشرية؟ ما الذي يُوقظ فيه الحنين إلى النور، حتى وهو في أقصى ظلمات الحضارة؟ إنها ليست محض غريزة بقاء، ولا نزعة أنانية للخلود، بل شيءٌ آخر… شيء لا يُرى، ولا يُقاس، لكنه يُنقذ.
ذلك الشيء، هو "القوة الفلسفية" الكامنة فينا.
ليس أعجب في هذا الكون من عقلٍ قادر على أن يسائل نفسه: "لماذا أنا؟ وما أنا؟ ولماذا كل هذا؟". هذه القدرة الفريدة على الانعكاس والتأمل، على نقد الذات وتحليل الحياة، ليست ترفًا فكريًا كما ظنها الكثيرون، بل هي مفتاح النجاة حين تسقط الأقنعة، وتنهار الأنظمة، ويتلاشى الضجيج.
لقد وُلد الإنسان وفي داخله بذرة فلسفية، خفية لكنها حيّة، تحاول أن تُنبت من خلال الشكّ والإحساس والعقل معًا. لكن المجتمعات، في سعيها نحو الإنتاجية المفرطة، قتلت هذه البذرة في المهد. بدلاً من أن نُنمّي القدرة على السؤال، تعلمنا كيف نُجيب دون أن نفكر. بدلاً من أن نغوص في عمق المعنى، عُلِّمنا أن نسبح على سطح المعلومات.
ولو سألت نفسك: ما الذي ينقص هذا العالم المتخم بالتقنيات، بالسرعة، بالصراعات…؟ لكان الجواب: ينقصه قلبٌ يفكر. روحٌ
تسأل. عقلٌ لا يخاف من الغموض.
الفلسفة ليست تجريدًا، ولا لعبة ذهنية. إنها نار مقدسة. ليست تُشعل لتُبهر، بل لتُنير. وبهذا المعنى، فإن من يكتشف الفلسفة في داخله، لا يعود كما كان. يصبح إنسانًا جديدًا: أكثر وعيًا، أكثر رحمة، أكثر قدرة على أن يرى الآخر لا كخصم، بل كصدى لصوته الداخلي.
ويا للعجب… كم مرة أنقذ الفكر إنسانًا من الجنون، من اليأس، من التطرّف؟ كم مرة كانت فكرة واحدة، صدرت من قلب متأمل، كفيلة بوقف حرب أو إنقاذ أمة أو تغيير مسار حياة؟
إن البشرية لا تنجو بالقوة، بل بالفهم. لا بالسيطرة، بل بالتماهي مع المعنى. وحين نُهمل تلك القوى الفلسفية في داخلنا، فإننا نترك مصيرنا لأيدي الجهل، ولأفكار جاهزة لا نعرف أصلها.
ما أكثر أولئك الذين يعيشون اليوم دون أن يسألوا أنفسهم: "هل هذا ما أريده حقًا؟ هل هذا ما أنا عليه؟" يعيشون وفق برامج يومية محددة، يُساقون كأرقام في آلات ضخمة، لا فرق فيها بين الإنسان والمُنتَج.
لكن تحت هذا الركام، لا تزال هناك شرارات. تلك النظرة الشاردة في عيون طفل يسأل عن الموت. تلك الدمعة التي تسقط من عيني رجل عجوز وهو يتذكر لحظة حبّ. تلك الرعشة في قلب امرأة تقرأ شعرًا صادقًا للمرة الأولى… كلّها دلائل على أن الشعور الفلسفي لم يمت.
نحن لا نحتاج أن نُعيد اختراع الفكر. نحن فقط بحاجة إلى أن نُنقّب عن آثاره فينا.
أن تكون فيلسوفًا لا يعني أن تحمل كتبًا، ولا أن تحفظ أسماء، بل أن تمتلك شجاعة السؤال. أن تتألم حين ترى الظلم، لا لأنك ضحية، بل لأنك تدرك أن كل ظلم هو انحراف عن الحقيقة. أن تفرح حين ترى الجمال، لا لأنه ممتع، بل لأنه يُشير إلى شيء أعمق: إلى معنى الحياة.
حين يبدأ الإنسان بالتفكير الحقيقي، فإنه لا يتحوّل إلى آلة جدل، بل إلى قلب نابض بالعقل. يصبح أكثر تواضعًا، لأنه يعرف جهله. أكثر حنانًا، لأنه يعرف هشاشته. أكثر إصرارًا، لأنه يرى في الإنسان ما يستحق الإنقاذ.
ليست الفلسفة دائمًا ضجيجًا فكريًا. أحيانًا، هي صمتٌ خاشع. تأمل طويل في شجرة عجوز، في وجه أمٍّ تبتسم رغم الحزن، في مساءٍ يتكرر لكنه لا يتشابه. في هذا التأمل، تُولد أعظم الأفكار… لا من فوق المنابر، بل من أعماق الشعور البشري.
كل لحظة تمرّ دون تأمل، هي لحظة ضائعة من الحياة الحقيقية.
كل كلمة تُقال دون فهم، هي سهم طائش في قلب الإنسانية.
6. لماذا الفلسفة الآن؟
لأننا نعيش زمنًا يتسارع فيه كل شيء… عدا الإنسان.
لأن القيم تُباع وتشترى.
لأن الجهل يُزخرف ويُسوّق.
لأننا في حاجة ماسّة إلى توازن داخلي، إلى نظام أخلاقي لا يُفرض من الخارج، بل ينبع من أعماق الوعي.
الفلسفة الآن، ليست اختيارًا، بل ضرورة وجودية.
الخلاص لا يكون بإلغاء الألم، بل بفهمه.
ولا يكون بتدمير الشر، بل بإدراك أسبابه.
ولا يكون بالهرب من الأسئلة، بل باحتضانها كأصدقاء قدامى.
إن مفتاح نجاة البشرية، لن يكون يومًا في يد الأقوياء، بل في قلوب المفكرين. أولئك الذين لا يسألون فقط "ما الذي يحدث؟" بل يسألون: "لماذا يحدث؟ وكيف يمكن أن نصبح أفضل؟".
يا أنت…
إن كنت تقرأ هذه الكلمات بعد سنين، فتذكّر أن في كل إنسان يسكنك، يوجد إنسان آخر ينتظر أن يُولد.
ذلك الإنسان لا يشبهك بالضرورة، لكنه أعماقك. هو أنت حين تُفكّر، وتحبّ، وتؤمن بأن الخير ليس ضعفًا، وبأن الفهم قوة.
لا تسمح لهذا الإنسان أن يموت في صمت.
ارفعه من داخلك، وامنحه اسماً، وصوتًا، ورسالة.
ليس هناك من خلاص عظيم بدأ بصراخ. كل خلاص حقيقي، بدأ بفكرة، غالبًا ما كانت هامسة، خجولة، مجهولة. لكنها كانت عميقة بما يكفي لتهزّ حجرًا في قلب الجبال.
فلنعتنِ بالفلسفة فينا، لا لأنها ترفٌ، بل لأنها الحياة.
ولنوسّع تلك القدرات الخبيئة في أعماقنا، لا لنُباهي بها، بل لننجو.