النسخة الكاملة

الكيل بمكيالين

الأحد-2024-09-22 09:40 am
جفرا نيوز -
إسماعيل الشريف

«إن أولئك الذين يلتزمون الصمت إزاء الظلم في أماكن مثل فلسطين، والذين لا يعارضون سفك الدماء في مناطق معينة، لكنهم يثورون عند حدوث أمر مشابه في مناطق أخرى، يطبقون المعايير المزدوجة، هذا هو النفاق السياسي الذي نراه اليوم في السياسات العالمية، وخاصةً في مواقف الولايات المتحدة»، أردوغان.

كشفت وثيقة سرية مسربة عام 2017 عن مذكرة داخلية تعود إلى مايو من نفس العام، كتبها برايان هوك، المستشار البارز في السياسة الخارجية الأمريكية، إلى وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون، تطرقت المذكرة إلى ضرورة تبني نهج أكثر واقعية ومرونة في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان في السياسة الخارجية، وأوضح هوك أن حقوق الإنسان يجب أن تُستخدم كأداة استراتيجية لممارسة الضغط على الخصوم الدوليين، مثل إيران، والصين، وكوريا الشمالية، وروسيا؛ حيث يمكن استغلال الانتهاكات في تلك الدول لتحقيق أهداف سياسية أمريكية. في المقابل، شدد على أهمية التساهل والتغاضي عن الممارسات التي يقوم بها حلفاء الولايات المتحدة، لضمان استمرار التعاون الاستراتيجي وتحقيق المصالح الأمريكية في تلك المناطق.

وبالنظر إلى ما ورد في مذكرة برايان هوك، يتضح بشكل لا يقبل الجدل الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية؛ حيث إن حقوق الإنسان يتم توظيفها كسلاح سياسي في سياستها الخارجية وأداة ضغط في العلاقات الدولية.

كما أن تصريحات جون كيربي -منسق الاتصالات الإستراتيجية في البيت الأبيض- تعكس بوضوح ازدواجية المعايير الأمريكية المقصودة في التعامل مع القضايا الدولية، فبينما تلتزم الصمت إزاء أفعال حلفائها، تتبنى موقفًا عدائيًّا تجاه خصومها، ففي الأولى يتجنب المسؤولون التعليق أو تقديم إدانة واضحة، كما رأينا في رفضه الإجابة عن مسؤولية الصهاينة عن الهجمات في لبنان. لو أن أعداء الولايات المتحدة ارتكبوا مجرد جزء بسيط من مثل هذه الأعمال، لكان التصريح مختلفًا تمامًا، وهذا النهج الانتقائي يثير تساؤلات جدية حول نزاهة سياستها.

بالضبط، لو كانت تلك الأعمال صادرة عن أعداء الولايات المتحدة، لرأينا رد فعلها مختلفًا تمامًا، وتصريحات نارية تتضمن أقصى عبارات الإدانة، بالإضافة إلى تهديدات واضحة. فضلاً عن إحالة القضية إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية قاسية يعاني منها شعبها، وبعدها قد يتدخل حلف الناتو بغطاء دولي، ويبدأ قصف الدولة المستهدفة، ما يؤدي إلى قتل الأطفال والنساء الذين أنهكهم الحصار، وتدمير البنية التحتية. وفي النهاية، قد تنتهي العملية باحتلال الدولة وسرقة مواردها، كل ذلك تحت شعارات «الدفاع عن الأمن العالمي» و»حماية حقوق الإنسان.»

نعم، تقف خلف هذه السياسات ماكينة إعلامية ضخمة تعمل بلا كلل على تشكيل وعي الجمهور وغسل العقول منذ الصغر من خلال الأفلام والبرامج التلفزيونية؛ حيث يتم تصوير أبطال خارقين يمثلون الولايات المتحدة وهم يحاربون «الأشرار»، الذين هم في الواقع أعداء أمريكا. يتم غرس فكرة أن الولايات المتحدة كضحية مستهدفة دائمًا وأعداؤها كالشياطين يستحقون الزوال، وأنهم يمثلون تهديدًا للحرية والديمقراطية، وعندما يحين وقت التحضير للحرب، يبدأ الإعلام بتشكيل صورة شيطانية لزعيم تلك الدولة، ويبرر التدخل العسكري على أنه ضرورة لتحرير الشعب من «الشرير»، وإحلال الديمقراطية وحقوق الإنسان، هذه الدعاية الممنهجة تهدف إلى تبرير التدخلات العسكرية، وتقديمها على أنها حروب تحرير، بينما الحقيقة أنها حروب للاستيلاء على الموارد وتقويض الاستقرار، وردع الأنظمة المخالفة لها.

والأمثلة على ازدواجية المعايير في سياسات الولايات المتحدة لا تنتهي؛ فهي تقدم دعمًا عسكريًّا وسياسيًا غير محدود للدولة المارقة المحتلة التي ترتكب إبادة جماعية في فلسطين، بينما تصنِّف نضال الشعب الفلسطيني المشروع على أنه إرهاب. وفي العراق عام 2003، تدخلت تحت ذريعة وجود أسلحة دمار شامل وحماية الديمقراطية والأمن، بعد أن فرضت حصارًا جوع أطفال العراق لمدة ثلاثة عشر عامًا. ورغم ذلك، تركت البلاد في فوضى عارمة بعد سرقة نفطها، وقد تنقلب على الصناديق لتعيّن ديكتاتورًا يخدم مصالحها، وقد تعدم زعيمًا جاء عبر الانتخابات. وتتعامل بمرونة مع الأنظمة الديكتاتورية الحليفة، رغم انتهاكاتها لحقوق الإنسان، بينما تشن حملات سياسية وإعلامية ضد دول أخرى مثل فنزويلا، والصين، وكوريا الشمالية، وإيران، لأنها تقف في مواجهتها.

بالفعل، يبدو أن الأقنعة سقطت عن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، وانكشفت في وحل غزة، وما يجري من انتهاكات مستمرة وصمت عالمي مرافق لها يعكسان الفجوة العميقة بين الخطاب الأمريكي المثالي والممارسات الفعلية على الأرض، ويكشفان عن واقع مرير يتناقض تمامًا مع الصورة المثالية التي تحاول تسويقها. فما كانت تدعيه من احترام لحقوق الإنسان والقانون الدولي والديمقراطية، لم يكن سوى واجهة زائفة، وقد كشفت غزة بمقاومتها وصمود شعبها زيف تلك الادعاءات، وأظهرت للعالم أن ما يتم الترويج له ليس سوى أدوات لتحقيق مصالح سياسية، ولم يعد هذا الخطاب ينطلي على أحد بعد أن انكشفت الحقيقة.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير