النسخة الكاملة

في مرآة نرى ما نريد

الأربعاء-2024-05-22 10:07 am
جفرا نيوز -
بقلم رمزي الغزوي 

 لأن الشعراء يهيمون خارج عوالمهم، ولأنهم يحيون بتربة كواكبهم الخاصة النائية، ولأن دماء عروقهم غير دماء أهل الأرض، فقد طردهم الفيلسوف أفلاطون، عندما صمم مدينته الفاضلة، بحجة أن الشعر لا يمت لطينة الأرض بصلة، ولهذا فهو لا يقدر أن يخصّب الحياة فيها.

ولكن الشعراء ليسوا وحدهم من يعيشون خارج هذا العالم، فأفلاطون نفسه عندما يطرح مشروع المدينة الفاضلة، كان يسبح في عالم غير عالم الواقع، أي في عالمه الخاص المتخيل، وربما كلٌّ منا يحيا في عالمه الذاتي: إننا كلٌّ يحمل عالمه برأسه!.
القصة الصينية القديمة تروي أن رجلاً كان يحب أباه العجوز كثيراً، لكن زوجته رفضت السماح له بالعيش معهما، ولأن الزوج مغلوب على أمره، فقد اضطر أن يسكن أباه في كوخ بعيد عنه.

الرجل المضبوع يفكر كثيراً بأبيه ويتخيله دائماً أمامه، وعندما زار المدينة، ووقف أمام بائع لديه أشياء غريبة، ولفته شيء زجاجي دائري، عندما حمله رأى فيه صورة أبيه!. فسأل عن هذا الشيء، فقال التاجر: هذا مرآة. فقرر أن يشتريها، بكل ما يملك.
 عندما عاد إلى بيته خاف على والده، فخبأ المرآة بصندوق، بعيداً عن سطوة الزوجة وغطرستها، وصار يتسلل إليها بين الحين والآخر، من أجل أن يحظى بمشاهدة أبيه.

 الزوجة الحذرة الغيور الغضوب، شكت بالأمر، فراقبت زوجها، الذي ازدادت خلواته في السرداب، حتى ضبطته متلبساً باكياً ينظر في المرآة، ولما سألته عن هذا الشيء الذي يحوز على اهتمامه، فقال:إنه أبي. لكن المرأة التي أخذت منه المرآة فشاهدت بها امرأة أخرى؛ فصرخت بوجه زوجها الخائف: الآن عرفت، إنك تخونني مع هذه المرأة التي في هذا الشيء!.

وبعد شجار قررا أن يحكما أول من يظهر لهما، وقد كانت لأجل الصدفة، الراهبة الوقورة تمرُّ من باب البيت، وقد رابها الصراخ، فشرحا لها الأمر، فنظرت الراهبة بالمرآة، وقالت إنني لا أجد أباك هنا، ولا أجد امرأة أبداً، إنني أرى راهبة فقط!.

 لم يقنع الزوجان بحكم الراهبة، وقررا أن يحكما جارهم السمين، رغم أنه دائماً مشغول ببطنه. الذي نظر فيها بشهية بعدما فهم المشكلة، فتلمظ وسال لعابه: إنني لا أرى هنا عجوزاً، أو امرأة، أو راهبة، إنني أرى خاروفاً مشوياً.

بعيدا عن إفلاطون ومدينته التي لم تتحقق ولن تتحقق، وبعيداً عن مرآة الرجل البار وزوجته الغيور وجارهم (البطيني)، نحن اليوم لا نحيا في هذا العالم، بل كلٌّ يحيا عالمه وفي عالمه، رغم أننا ننظر في مرآة واحدة، إلا أن كلاً منا يرى ما يريد.