جفرا نيوز -
مهنا نافع
الضبابية والتناقض بالتصريحات هما من أهم الوسائل التي قد يلجأ إليهما أهل السياسة (فن الممكن ضمن الإمكانات المتاحة)، وهما من الوسائل الاستباقية التي تطرح لمواجهة كل الاحتمالات الناتجة عن الاختلافات بالسيناريوهات المتوقعة أو المجهولة، وتعتبر مؤشرا على الرغبة بالتزام الحيادية وإرضاء جميع الأطراف إن أمكن ذلك، وقد برزت ملامح هذا الأسلوب في الآونة الأخيرة من خلال العديد من التصريحات التي تعبر عن مواقف الدول وسياساتها الخارجية، وكان لتعدد الأقطاب وتوالي الأزمات وخاصة الناتجة عن انتشار الأمراض والحروب الأثر الكبير لظهور هذا النهج السياسي عالميا.
مهما وصلت أي دولة من شبه اكتفاء ذاتي في قطاع ما فإن باقي القطاعات لديها تبقى لها حاجات تلزمها على التعاون مع باقي الدول لتغطيتها، فباختلاف التضاريس والمناخ والثروات المعدنية والموارد من الطاقة والمياه إضافة للاختلاف بالتعداد السكاني والمستوى المعيشي والتعليمي سيعمل كل ذلك على الاختلاف في الفوائض وكذلك للنواقص، فلا يكون أمامها من مناص إلا اللجوء إلى تكتل اقتصادي مع مجموعة من الدول الجادة بالسعي وراء التقدم والازدهار لاقتصادها.
وقد تعزز السعي وراء التكتلات الاقتصادية إضافة لما سبق ذكره بسبب التغيير للمفهوم العام للصناعة وانتقالها من مدرسة الإنتاج الصناعي المتكامل من الألف إلى الياء إلى مدرسة الصناعات المتخصصة بجزء من المنتج النهائي والذي أصبحت مكوناته تصنع في عدة دول، فأوجب هذا التغيير الدول الصناعية على التعاون بجميع أشكاله للحفاظ على ديمومة صناعاتها وهذا ما حدث مع دول النمور الآسيوية وكذلك رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
إن التكامل الاقتصادي بين الدول والذي كانت بداياته بعد الحرب العالمية الثانية كان بسبب وضوح الرؤيا للسياسة الخارجية لتلك الدول بعد انقشاع دخان المعارك مما أفضى إلى مجموعات مختلفة من التكتلات الاقتصادية في عدة أقاليم حول العالم وقد كان الأكثر أهمية وتأثيرا وتجاوز مفهوم التكتل الاقتصادي إلى مستوى الاتحاد ألا وهو الاتحاد الأوروبي.
لذلك كان وضوح هذه الرؤيا الطريق الذي ينتهي عنده أول درجة من درجات سلم الصعود للنجاح والأزهار الاقتصادي، وتماما على النقيض كانت الضبابية والتناقض بالتصريحات أو حتى الامتناع عن الإدلاء بأي موقف واضح تجاه أي من القضايا والأحداث الحالية ان استمر على (المدى الطويل) سببا واضحا لتراجع الاقتصاد وتعاظم مشكلاته.
فهذه الضبابية وأخواتها رغم اهميتهم ليسوا أكثر من وسيلة مؤقتة لتساعد الدول على شراء الوقت لإعادة ترتيب الأولويات والانتظار لوضوح الرؤيا ومن ثم الدخول في خضم التجاذبات والتحالفات والتكتلات مع الدول التي تجد أنها ستحقق لها الفائدة والنجاح لتحقيق أولوياتها الجديدة التي نتجت بسبب تبعات أي من حروب أو أزمات.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأن من أشعل الحرب في الوقت الذي هو اختاره سيمتلك قرار اطفائها بالوقت الذي يختاره ايضا، فدول العالم قلقة والرؤيا أمامها مشوشة وسلاسل التوريد والإمداد أصبحت تطيح بجدوى الاستثمار بالتصدير والاستيراد بسبب الارتفاع المتتالي لوسائل الشحن، والبعض منها توقف، فالحرب حتى وإن وقعت بعيدا عن باقي حدود الدول فهذا لا يعني أن اقتصادها لن يكتوي ولو بالقليل بنارها، لذلك لا بد من أن تبقى رفيقة الحروب (الضبابية) ملاذها المؤقت الآمن، فلا أحد لديه أي تصور عم ستؤول إليه هذه الأحداث، وقد تعلمنا من كتب التاريخ بأن الحروب ورغم غرابة هذا التشبيه، كفراشة الحقل التي لا يستطيع ناظرها التنبؤ الى أين ستأخذها اوهن نسمات الهواء.