جفرا نيوز -
الاب رفعت بدر
دمعت عيناي وأنا أشاهد صورة أخي وزميلي الأب يوسف أسعد، كاهن الرعيّة في غزة، وهو يحمل تفاحة ويبتسم. ويقول في «بوست» له على صفحته على الفيسبوك، والتي ينشر عليها حين يكون تيار الإنترنت عاملاً: «بعد ست شهور من الحرمان من الخضار والفواكة أجت لي اليوم هدية تفاحة حمرا».
تصوّروا معي أيها الأصدقاء قيمة هذين السطرين الذي كتبهما الأب يوسف، بعد يومين من عيد الفصح المجيد الذي احتفل به مع رعيّته المتواجدة منذ بدء العدوان، وأصبح معهم عائلة واحدة، في كنيسة العائلة المقدّسة منذ أكتوبر الماضي، وفجأة: «بالساحة التقينا بالساحة مع التفاحة»، ويفرح بها بعد ستة أشهر من الفراق!
الأمر بسيط وعادي جدًا للملايين من البشر الذين ينعمون يوميًّا بعدد كبير من حبات التفاح والفواكة والحلويات، وغيرها من كماليات هذه الحياة، ولكن كاهن غزة يتلقف هذه الهدية النادرة في هذا الزمان المريع، ويفرح بها وكأنها هدية عيد الفصح المجيد الثمينة.
وهنا لنا أن نتصوّر أن حالة الأب يوسف هي حالة الشعب الفلسطيني في غزة. إنها حالة شعب حرم من أبسط حقوقه، ومن أبسط البديهيات في هذه الحياة، ومن أبسط أنواع الغذاء والماء والدواء. إنّه شعب محروم بالرغم من المساعدات الضخمة التي تمّ إيصالها سواء إلى الكنيسة أو إلى الشعب المهجّر كله في أماكن تواجده، وفي الخيم، غريبًا وبعيدًا عن بيته الأصلي. والكاهن يوسف، ابن مصر العريقة، ورهبانية الكلمة المتجسد، ورعية العائلة المقدسة التابعة للبطريركية اللاتينية، يقرأ الكتاب المقدس جيدا، ويعرف بانّه حين يأتي العدوّ ويدمّر البلاد، يكون من علاماته غياب ثمار الأرض، كما جاء في سفر يوئيل النبي: «الكَرمَةُ جَفَّت والتِّينَةُ ذَبَلت، والرُّمَّانُ وحتَّى النَّخيلُ والتُّفَّاح، وجَميعُ أَشْجارِ الحُقولِ يَبِسَت، فذَوَى السُّرورُ عن بَني البَشَر».
كاهن يفرح في غزة بحبة تفاح نجهل إلى الآن من الذي أرسلها، ولكننا نشكره شكرًا جزيلاً، مع اعتزازنا بكل المساعدات التي أرسلها الأردن، والدول الشقيقة والصديقة، برا وجوا، ونشكرهم على أنّهم أوصلوا هذه الإبتسامة والفرح إلى شعب يحق له بعد فترة الصوم الأربعيني أن يفرح بحبة تفاح.
ولكن لنكمل بوست الأب يوسف إلى نهايته: «لقد تقاسمت هذه الحبة مع ثلاثة أشخاص». إنّ العدوان على غزة قد عمّق المحبّة الأخويّة والمشاركة والفرح بأمور بسيطة، ولكن الفرحة الكبرى هي بمبدأ المقاسمة والمشاركة، مقاسمة الخبز اليومي، ومشاركة التفاح الذي يطلّ باسمًا ونقيًا وطاهرًا بعد ستة أشهر من الحرمان. غاب السلام والطمأنينة، والعدالة والتفاح... لكنّ المحبة والمقاسمة بقيتا شاهدتين على عمق الأخوّة الإنسانية من تحت الدمار.
لنفكر قليلاً بمقدار الطعام الذي تستهلكة البشريّة يوميًا، ولنفكر بمقدار الطعام الذي يرمى يوميًا، وكم من النعم والخيرات التي لا نقدّر نعمتها إلا في حالة الحرمان! ولنفكر بالمقاسمة وإطعام الجائع التي علينا نحن المسيحيين والمسلمين في سيرنا سواء نحو الفصح المجيد بصوم أربعيني، أو نحو الفطر السعيد بصوم رمضان، أن نقدّم ما تجود به نفوسنا من أجل دعم إخوة وأخوات لنا محرومين من أبسط أسباب السعادة اليوميّة. ولنفكر بمنظار أوسع بالغنى الفاحش الذي يسيطر على نسبة قليلة من بني البشر، ولكن هذه النسبة تستطيع أن تكون سبب سعادة للغالبية العظمى من الجياع والمحتاجين في عالم اليوم. انظروا كيف انّ كاهنًا معه حبة تفاح استطاع أن يدخل سرور دخولها إلى الكنيسة لثلاثة أشخاص. ألا يستطيع أغنياء هذا الزمان أن يحذو الحذو ذاته، وأن يعينوا ملايين الأخوة الجياع في العالم!
نحن لا نتكلم عن عصور وسطى، وإنما عن القرن الحادي والعشرين، حيث يفرح الكاهن ويبتسم ابتسامة العيد مع حبة تفاح تطلّ عليه باسمة بعد ستة أشهر من الغياب والحرمان.
أي عالم هذا الذي نعيش به، وأي عالم نريد أن نبنيه معًا أيها الأصدقاء؟ لنفكر معا، مستلهمين حلولا للمستقبل من حبة تفاح حمراء!