النسخة الكاملة

مقطع من الذكريات الحميمة (3)

الإثنين-2024-03-24 11:05 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم العين محمد داودية

تم نقلي من بير إلى بير، من مدرسة بير ابو العلق في اقاصي جنوب الشوبك، على المرتفعات المطلة على وادي موسى والبترا.
فانتهى بذلك النقل، الفصلُ الصعب الأول من معاناتي.

تم نقلي إلى مدرسة بير الدباغات «حاضرة» المنطقة التي تتوسط قرى بير أبو العلق وحوالة وبير خداد والشمّاخ.

دلني محمد الملكاوي المعلم المنقول الذي حللت محله، على طريقة تحضير العجين، وترك لي منقلاً كبيراً كنت «أُجمِّر» فيه الحطبَ، ثم أضع فوق الجمر مشبكاً حديدياً، أضع العجين المرقوق فوقه وأقلّبه.

بعد دقائق احصل على خبز قمح محمر، لا تسعفني اللغة لوصف مذاقه اللذيذ.

العمل مختلف في بير الدباغات. لم أعد أمشي 10 كيلومترات يومياً بين بير الدباغات وبير أبو العلق. ولذلك تفرغت للزيارات والرحلات والتجول في غابة «الهيشة»، التي تقع مدرستي على بوابتها، والقنص والقراءة والتمتع بالطبيعة.

وضعت منقلي تدفئة في غرفة التدريس التي كانت تضم 12 طالباً؛ المنقل الأول قرب الباب، والثاني في نهاية الغرفة. ووضعت جدولاً يومياً، بحيث يقوم طالبان كل يوم بإحضار حطب التدفئة مبكراً كل يوماً، وإشعاله إلى أن يصبح جمراً، ثم يجران المنقلين إلى غرفة التدريس التي تصبح مكاناً دافئاً صالحاً جزئياً للدراسة.

دعانا عوض إلى عشاء في مضارب أهله. مشينا نحو ساعة في الغابة، ذبح عوض خروفاً «فدو» عن إبنه. مشينا قرابة كيلومتر داخل غابة الدباغات: عدنان خليل خطاب وأمين الصغيّر ومحمد موسى النعانعة وأنا.

كان الشفق أرجوانياً ذهبياً فاتناً في خريف الدباغات، الخميس الأخير من شهر أيلول 1967.

قدّم «المعزّب» طبقاً كبيراً، وضع فوقه خروفاً مقطعاً إلى أربع أو خمس قطع، تتربّع على عدة طبقات من خبز القمح الشراك، المُغرق باللبن وبالسمن البلدي.

بلا أرز.

كان جدي يكره الرز ويقول: «إخس يا الرز الهامل».

ما أن جلس أربعتنا حول الطبق، حتى أطفأ المعزّبُ السراجَ المعلق على واسط الخيمة وغاب، رافضاً دعوات صحبي له بمشاركتنا الطعام، ولما ألحّوا عليه ان يجلس ويأكل معنا، قلت لهم، ما أغرب وأعجب ما تطلبون، تدعون الرجل إلى وليمته !!

عرفت ان المقصود من إطفاء السراج هو أن نأكل بأقصى قدر من حريتنا، بلا خجل. فمن ذا سيخجل في العتمة ؟

ما يزال طعم تلك الوجبة الفريدة في فمي.

توسعت علاقاتي، فوصلت إلى مدرسة الشوبك الزراعية. هناك وجدت الأستاذ النبيل عبد الحميد خلف الجفوت، صاحب السيارة الفلكسفاجن الصفراء. أصبح عبد الحميد يزورني في الدباغات ونواصل منها إلى وادي موسى والبترا.


توفرت سيارة إذن، كان عبد الحميد يصطحبني فيها إلى الطفيلة على بعد نحو 45 كيلومتراً شمالاً.


تعرفت على عدد من الطلاب، منهم الطالب ثابت حسن الملكاوي، الذي أصبح دكتوراً وصحافياً وباحثاً ومؤلفاً.


وقد زرته في الثمانينات، ونمت عنده ليلة، في قريته المُسمّاة «المظلومة» بالقرب من بلدة ملكا.


كما كان يزورني ويبيت عندي في المفرق وعمان. وقد قدمت التعازي برحيله إلى أبنائه وذويه في 22 تشرين الأول عام 2014 في ملكا.

كان التعليم رسالة يضفي علينا هيبة، ونعطيه حقه من الإهتمام والاحترام.


كنت أدخل إلى غرفة الصف، كل يوم وانا «تكميل وسنجة عشرة». ابتسامتي تسبقني، ذقني حليق، هندامي مرتب، حذائي ملمع، وفي جيبي حبات ملبّس وبضعة قروش، لمكافأة الطلاب المتفاعلين مع الحصة.

كان على معلم تلك الأيام أن يلاحظ كل ما له صلة بطلابه، عليه أن يكون معلماً وطبيباً وأُمّاً وأباً وأخاً وصاحب مبادرة.

كان المعلمون جزءاً أصيلاً من المكان ومن المجتمعات. يعيشون في القرى التي يعتبرهم أهلُها مراجعَ ثقاة في الكثير من قضايا مجتمعاتهم السياسية والثقافية والحياتية.

وأحياناً كانوا يصاهرون ويتزوجون من تلك القرى، كما حصل، على سبيل المثال، مع صديقي المعلم عبد الكريم عقاب الخالدي، الذي درّستُ معه في الدجنية عامي 1972 و 1973 وصاهر أهلها خزاعلة بني حسن كرام الناس.

خَفَّت حِدة العزلة والوحشة إلى منسوب كبير، فقد تعوّدت على نمط العيش في بيئة الثلج. وتعودت على المكان الذي أصبح أقل عزلة.
أصبحت أمارس رياضة المشي لمسافات طويلة في زيارة معلمي القرى المجاورة: نجل وبير خداد والشمّاخ وحوالة وبير أبو العلق. وأصبحت البترا أكثر قرباً وأيسر طريقاً. كما أصبح السفر إلى الطفيلة ومعان وعمان والمفرق أقل صعوبة.

كنت أشارك في أعراس الأهالي «أُنقِّط» العريس وأدبك واغني و»أطخ» في كل عرس باغتين او ثلاث باغات.
كان سعر الطلقة 3 قروش وكان الفشك متوفراً بكثرة.

كان ثمن رشّاش «الستن- بور سعيد» 7 دنانير. وثمن بندقية «السيمونوف» 10 دنانير. و ثمن «الكلاشنكوف» 15 ديناراً.
امتلأت الشوبك بالأسلحة التي كان بدو صحراء سيناء يجمعونها من مخلفات حرب 1967 في سيناء، وينقلونها على الإبل، يعبرون بها حدودنا تهريباً.

ولاحِقاً أصبحت تلك الأسلحة المهربة جزءا من سلاح الفدائيين.

كنت أُدعى باستمرار، إلى كل ولائم الأعراس، فالمعلم نوّارة ذلك الزمان.

وكنت وما زلت أحب المناسف الجماعية التي يكون لبنها خفيفاً أقرب إلى الماء، «مثل غسول اليدين على رأي جدتي».

كانت الأعراس مناسبة يفترض أن أحظى فيها، أنا العازب المغترب البعيد عن أهلي، بوجبة دسمة، بعد وجبات لا حصر لها من السردين والتونا والبيض والبولابيف ومفركة البطاطا ومقالي الزهرة والبطاطا والباذنجان، أما وجبة الحجل والشنانير البرية، فاتناولها أحيانا، بعد رحلة قنص في غابتي !!

ما أن توضع المناسف على الأرض حتى يتحلّق المدعوون حولها، وفي لمح البصر تختفي قطع اللحم بين الأيدي الضخمة.
لم يكن لائقاً أن «يُدافش» المعلم، ولا أن ينافس على قطع اللحم !!

كنت «أُنقّط» العريس عشرين قرشاً او أكثر قليلاً، وأعود إلى غرفتي حانقاً، لأتغذى علبتي طن أو علبة بولابيف اكسترا.

تكررت عودتي من ولائم الأعراس خائباً جائعاً، فقررت أن أضع حداً لهذا الحال المائل، والفشل المتكرر.

في عرس موالٍ، تقدم المدعوون نحو المناسف إلا أنا، تسمّرت على «الجنبية» بعيداً، فما جدوى ان أتقدم إلى المنسف الذي ليس لي فيه مصلحة أو منفعة أو لحم.

ووسط إلحاح المعازيب عليّ أن اتغدى أعلنت: كلوا صحة وعافية «أنا مُحَمّى عن الرز» !!

لا أعرف من أين حطت تلك الجملة على لساني. لقد فتح الله عليّ بها.

صرخ والد العريس: الأستاذ محمّى عن الرز يا عيال. وما هي إلا دقائق حتى وضعوا أمامي صينية مليئة بخبز الشراك المغمور باللبن وفوقها قطع كثيرة من اللحم واللية. أكلتها كلها بشراهة لم أعهدها في نفسي.
أكلت حينها كمية تسد عن كل الأعراس التي فاتني لحمُ مناسفها. انتقمت من الخيبات، وثأرتُ لكل المرات التي عدت فيها خائباً إلى المعلبات.

تكرر هذا الحال الدسم الجميل عرساً آخر. فما أن وضعوا المناسف ودعوني، حتى بادر أحد المعازيب إلى الإعلان: الأستاذ محمّى عن الرز، هاتوا «صينية الأستاذ» يا عيال.

صار للأستاذ صينية !!

هبطت أمامي صينية مليئة بقطع اللحم الدسم، «تربّعتُ» على الأرض والتهمتها كلها.
كانت أعين عدد من المدعوين ترمقني حسداً وأنا لا أبالي، لا بل وأنا أكاد انفجر من الضحك، لقد «دبّرت راسي» !!
في العرس الذي يلي، أعلن رجلان أنهما مُحَمّيان هما أيضاً عن الرز !! هاتوا «صينية الأستاذ»، صرخ شقيق العريس، ودعا الرجلين إلى الانضمام إليّ ومشاركتي صينيتي.
تبادلت معهما النظرات، ونحن نوشك أن نقول «دافنينو سوا».
تم إبطال «الحيلة البيضاء» التي فعلت فعلها اللذيذ. وصار عليّ أن أبحث عن ذريعة أخرى للتغلب على فوبيا المناسف الخانق.
أصبحت أتعمد أن أصل متأخراً، فتصل «صينية الأستاذ» المليئة باللحم الذي لا يزاحمني فيها أحد !!
انتقلت عام 1967 إلى مدرسة الشمّاخ التي لم اشعر بثلج الشتاء فيها، على شدّته، فقد كنت قريباً من مدرسة الشوبك الزراعية. وقريباً من «عقدة» المواصلات. وكان بقربي هاتف وعلى بعد أمتار، عيادة صحية.
كما إنني أصبحت أشد بأساً.
كنت طالباً في المدرسة الهاشمية الإعدادية، التابعة لمديرية الثقافة العسكرية، الواقعة في أقصى شمال المفرق. درست فيها الصفوف السابع والثامن والتاسع. كنت امشي نحو 7 كيلومترات يومياً، ذهاباً وإياباً إلى المدرسة في الحر والقر، أو أمشي أحياناً نحو كيلومترين إلى أقصى جنوب شرق المفرق، حيث موقف سيارة الجيش التي تُقِلً الطلاب يوميا إلى المدرسة.
كنت أقضي عطلة الصيف المدرسية في المفرق.
ألقت كارثة حزيران بظلالها على أرواحنا وعلى علاقاتنا، فكانت الهزيمة والرد عليها، هما هموم وجدول أعمال أبناء جيلي بامتياز، كنا نشعر بالخذلان والعجز، وكان علينا أن نفعل شيئاً، تحاورنا ليالٍ طويلة، ورجعنا إلى عشرات المراجع، مثل كتاب «ما العمل» للينين، وإلى مؤلفات ماو تسي تونغ، ومذكرات تشي غيفارا، ومؤلفات محمود شيت خطاب، وليدل هارت، وفرونزة، ومذكرات دوغول، وتشرتشل، ومنتغمري، ورومل، ومختلف القادة السياسيين والعسكريين.
قادت هزيمة حزيران كل الأنظمة العسكرية في الإقليم، إلى إطلاق «مشروع تحرير» !! ملكية العبد عن كتفيها على اكتاف منظمة التحرير الفلسطينية، الا الدولة المدنية الأردنية القائمة على الشرعية الدستورية، التي تأسست م.ت.ف ودشن الملك الحسين أعمالها واطلق شرعيتها في القدس عاصمة الأردن وفلسطين الروحية عام 1964.
كان وصفي التل صاحب منهج مغاير، وكان احد منظري فكر التحرير السياسي والعسكري، الذي يقوم على الحسابات العلمية العسكرية الدقيقة، لا على الفزعات والهبّات والتوريطات. فقد كان يعتبر معركة 1967 مع العدو الإسرائيلي «معركة في غير أوانها»، وهو ما كان صائباً إلى درجة مطلقة.
توزعنا على أحزاب وتنظيمات تلك المرحلة المرعبة. اختار الشقيقان يوسف وعماد ميخائيل القسوس الحزبَ الشيوعي. والأشقاء فخري وميشيل وجميل النمري الجبهة الديمقراطية. وفؤاد زيتاوي ومحمد النجدي جبهة النضال الشعبي. وسمير إسحق ومحمود كساب ومحمود النجدي وصلاح الداغستاني الجبهة الشعبية.
تابعت كاتبي المفضل غسان كنفاني، فوجدته في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أسستها حركة القوميين العرب، عقب هزيمة عام 1967، فالتحقت بالجبهة برفقة محمود كساب، الذي سيصبح لاحقا زوج شقيقتي خديجة، والذي سمّينا إبنه البكر غسان، نسبة إلى الشهيد غسان كنفاني.
عملت في مكتب المفرق ثم لاحقاً في مكتب الطفيلة، إلى أن حلّت كارثة أيلول 1970.
بلغ بي التمزق ذراه، والفانتازيا قمتها. فجيشنا العظيم، الذي يضم أخي علي، وعمي جعفر، وخالي عبدالحليم، واصدقائي فيصل الدحلة ومصطفي صايل الحسبان ويوسف هاشم الهنداوي، الجيش الذي طحن عظام موشي ديان على نهر الأردن، والفدائيون الذين انخرطنا بحماسة في تنظيماتهم، اصبحوا في مواجهة مؤلمة على الضفة الشرقية.
وهناك على الضفة الغربية المحتلة، يقف الجيش الإسرائيلي المحتل، متفرجاً على دمنا، وشامتاً بصراعنا، ومغذياً له، بعد تعاوننا في موقعة الكرامة المجيدة.
* مقتطف من كتابي «مِن الكسارة إلى الوزارة». منشورات الدار الأهلية للنشر والتوزيع.