جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
في مواسم الزيت وبدايات الشتاء كان الغجر يحلون على قريتنا. يضربون خرابيشهم الملونة وخيامهم الواسعة في السهل الواسع بين أشجار الزيتون. وكنا نهبّ نعاونهم بنقل الماء وسرقة ما تيسر من حطب أسيجة دورنا عربوناً لمحبة ومفتاحا لتعارف جديد.
كان الفرح يملؤنا حتى تراقينا وشوشة رؤوسنا، نحن الأولاد الممزوجين بالعفرتة والطيبة وبدايات العشق. وكل حين، وفي غمرة انشغالنا بوصولهم كان يهمزني قلبي الخجول: هل عادت غجرية العام الماضي معهم؟ هل كبرتْ بما يكفي؟ هل صار شعرها أرجوحة حلم يطير؟.
الغجر كانوا يحيلون القرية نشاطاً والكل يقصدهم. هذا يريد أن يركِّب أسناناً ذهبية بدل تلك الآيلة للخراب والسقوط، وآخر يروم أن يشحذ فأسه فيما امرأة طاعنة في البركة تطلب غربالاً للقمح وأخرى تريد أن تبيّض أوانيها النحاسية لتعود لامعة كعروس.
ونحن كان يعجبنا أن تعطينا الغجرية العجوز غليونها الطويل المصنوع من القصب، فنعبّ الدخان ساعلين بعيون دامعة ونطلق سحابةً بيضاء نخالها ستمطر بعد حين على عتبة الخيمة. كان يعجبنا أكثر أن نساعد الحداد فننفخ له الكور ونراقب الحديدة كيف تغدو دماً ملتهباً بين الجمرات النزقات قبل أن تصير فأساً أو سكيناً بعد سيل من ضربات المطرقة. فيا ذا الحداد الأبله ماذا ستصير قلوبنا إذا ما طرقتها مطارق الحب؟.
كثيراً ما كنت أتصنم أمام الصانع الحاذق صاحب الشعر الأبيض المجعود، إذ يصنع خنجراً من قرن كبش، وكم تمنيت لو أتزنر بذاك الخنجر وأقتحم عين الشمس لأنحرها قرباناً لغزالة لم تعد هذا العام مع خيام الغجر. غزالة كان لها مذاق الزيت البكر.
الغجريات يجبن البيوت والحارات ويبعن الإبر والأمشاط وعلك البطم، ومنهن من يقرأن الحظ بأصداف الودع. وذات كانون بعيد تنادي أمك غجرية جوالة وتطلب منها أن تقرأ بعض حظك، لقاء خيط من زيت، فترمي الغجرية ودعها على صفحة الترب، مرة إثر مرة، ثم تعيد الكَرة مرتين.
تنظر قارئة الحظ في عينيك وتبتسم بطرف شفتيها الرقيقتين وتقول لأمك: هذا ولد عفريت، يحلم بأجنحة لسفر بعيد، فلا تدعيه يطير من تحت جناحك. كنت أفرح بسري كثيراً، فالغجرية لم تقل لأمي شيئاً بشأن الوقوع في الحب الأخير. فأمضي متحسسا قلباً يلتهب في جمر الصدر وأرجو لو يغدو خنجراً أذبح به شمساً جنحت للرحيل.