جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم حسين الرواشدة
لم يغب وصفي التل عن ذاكرة الأردنيين، فمنذ استشهاده قبل 52 عاما لا يزال مقعده شاغرا، لم يملؤه أحد، صحيح أن وصفي لن يعود، لكن القيم التي حملها والمواقف التي سجلها لم تمت، ويمكن أن تُستعاد، الأردنيون الذين افتقدوه، كرجل دولة، قادرون على فعل ذلك، فهذا البلد الذي افرز وصفي، وغيره من الزعامات الوطنية، لن يعجز عن ولادة آخرين، بشرط أن يكونوا بحجم الأردن، ولن يكونوا كذلك إلا إذا تحرروا من حسابات الغنيمة، ومزادات النفاق.
في كل عام نستدعي وصفي التل، أحيانا نُطارحه همومنا، وأحيانا أخرى نُصارحه بما فعلناه بأنفسنا، وراء هذا الاستدعاء اكثر من سبب : مزاج عام جعل من الشخصية الأردنية تربة صالحة لزراعة البطل وانتظاره، وزعيم بحجم وصفي استطاع أن يفرز من الأردنيين أفضل ما لديهم، وأن يوظف اختلافاتهم وفقرهم وتعبهم في معركة بناء الأردن، باعتباره قضيتهم الأولى والأخيرة، ثم واقع مزدحم بالأزمات والتحولات، والحيرة واللايقين، دفع الناس إلى «الالتجاء» لروح وصفي، والبحث فيه عن بصيص أمل، أو خلاص.
لكن استدعاء وصفي التل، هذا العام، يبدو مختلفا تماما، كما يبدو ضروريا أيضا، الوقائع التي نعيشها اليوم تشبه السنوات الأخيرة التي عاشها وصفي نهاية الستينات، وقتها داهمتنا «النكسة» التي كان للشهيد رأي في المشاركة بالحرب التي انتهت إليها، لم يرفض الحرب كمبدأ، ولم يهرب من المعركة، لكنه اعترض على توقيتها غير المناسب، وعلى المغامرة فيها بدون جهوزية واستعداد، بعدها، أيضا، داهمتنا « فتنة» الهوية، كان وصفي حازما في التعريف والتصرف، الهوية الوطنية الأردنية (نقطة)، القضية الفلسطينية (مقاومة وتحرير)، الضمير الوطني يقظ دائما، وهكذا يجب أن يكون، المسؤولية مُشرّفة حين يكون المسؤول بحجم الموقع، وبمستوى القرار.
ما أشبه الليلة البارحة، أرجو لا يسألني أحد كيف، أو لماذا؟ أُشير، فقط، إلى أن وصفي التل وضع عنوانين، يصلح اليوم أن نستحضرهما للتعامل مع واقعنا؛ عنوان العقل والتعقل، وعنوان الخلق والوطنية الحقة، من الدرس الأول نتعلم إدارة مشاعرنا وانفعالاتنا، وتسديد خطابنا العام باتجاه مصلحة الدولة، بعيدا عن القفز في الهواء، وتقمص الأدوار، هذا الأردن له تجربته ومعادلاته وأولوياته، ظل يتحرك كبوصلة للحق والاعتدال، ومرجعية للعقلانية، ويجب أن يبقى كذلك، الدرس الثاني «الخلق الوعر» الذي ميّز شخصية الأردني ودولته، حيث لا مزايدات ولا ابتزاز، ولا تجارة مواقف، ولا بحث عن تعبئة الأرصدة السياسية والحزبية والشخصية، أقول : ما أحوجنا، في هذا الوقت بالذات، ادارات الدولة ونخب المجتمع، إلى استدعاء هذين الدرسين.
يبقى درس أهم نتعلمه من وصفي، فقد حمل روحه على كفه، وذهب إلى القاهرة لحضور اجتماع مجلس الدفاع العربي لكي يقول كلمته، كلمة الأردن، لم يعتذر، ولم يتردد، على الرغم من النصائح التي سمعها بعدم السفر، اليوم - للأسف- يتردد الكثيرون من رجالات الدولة الذين «تبرطعوا « في خيراتها عن الخروج إلى الأردنيين لمصارحتهم بكلمة، أو تطمينهم على موقف مشرف، أو مشاركتهم في «همّ» عام، وأي « همّ» أخطر مما نحن فيه الآن، ما أكبر وصفي، وما أشجعه، وما أصغر الذين يحاولون نوشه بسهام اتهاماتهم، أو الذين يلبسون عباءته، ويقايضون باسمه وطنهم، وهم أبعد ما يكونون عن مواقفه، وأخلاقه، وقامته العالية، لكن يبقى عزاؤنا في الأردن الكبير، وقيادته وشعبه، وقيم دولته التي ما تزال عصيته على العاديات.