جفرا نيوز -
جفرا نيوز - كتب - الدكتور عبدالله سرور الزعبي
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وجدت الدول المنتصرة انه لمن الضروري انشاء هيئة الأمم المتحدة، والتي من اهم أهدافها المحافظة على السلم والامن العالمي، ومنع تكرار ويلات الحرب التي عانت منها شعوب العالم وخاصة أوروبا واليابان، ودعم شعوب جنوب الكرة الأرضية الواقعة تحت الاستعمار لنيل حريتها واستقلالها.
خلال تلك الفترة التي كانت تستقل فيها الدول، ظهرت إسرائيل في قلب الشرق الأوسط، وبقرار من مجلس الامن، ودعما من كافة الدول العظمى، بما فيها الاتحاد السوفيتي (الذي عملت روسيا على انشاءه عن طريق ضم شعوب ودول مختلفة غير متجانسة من المناطق المجاورة وبالقوة احياناً، مع العلم بان روسيا لا يوجد لها تاريخ استعماري في دول جنوب العالم) آنذاك. بعد انهيار الاتحاد الغير متجانس، خرجت روسيا جريحة في كبرياها، وهي التي لا تنسى استراتيجية وعقيدة القيصر بطرس العظيم (1672-1725) والقائمة على ضرورة السيطرة على القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا ومنع ان تكون أوروبا موحدة، وهو صاحب نظرية من يسيطر على المياه الدافئة (البحر الأسود، والمتوسط والمحيط الهندي) يسيطر على العالم.
الرئيس الروسي بوتين يتبنى نلك العقيدة بالكامل، فعاد الى ضم القرم لروسيا، وعاد الى الساحل السوري، كما فعلت قبله الامبراطورة يكاترين الثانية، عنما أرسلت الاسطول الروسي الى السواحل الشرقية للبحر المتوسط لضرب بيروت، واجبرت العثمانيون الى التنازل لها عن القرم وأجزاء من أراضي أوكرانيا. الرئيس بويتن، خاض حرب الشيشان لمنع انفصال القوقاز ودخل أوكرانيا، وسيستمر هو او من يخلفه للمحافظة على الاستراتيجية التاريخية والتي تحفظ هيبة وقوة روسيا، وفرض واقع استراتيجي جديد على الساحة العالمية.
سارعت الولايات المتحدة الامريكية والكثير من دول العالم لإدانة العمليات العسكرية الروسية والاستيلاء على الراضي الأوكرانية، وفرضت عقوبات (زادت في عددها على عدد العقوبات التي سبق وان فرضت على العراق)، دون تفويض من مجلس الامن، وقدمت دعم عسكري ومالي غير مسبوق في تاريخها لأوكرانيا، لمواجهة روسيا وتحرير أراضيها، كما وايدت قيام أوكرانيا بضرب الأراضي الروسية والتي وصلت الى ارسال طائرات لضرب الكرملين، معتبرة هي وغيرها ان ما تقوم به أوكرانيا دفاعاً عن النفس ولاستعادة أراضيها.
في المقابل، استمرت إسرائيل، كدولة استعمار حديث، لا تنفذ قرارات مجلس الامن، القاضية بالانسحاب من الأراضي المحتلة، مرتكبة الحروب التوسعية الواحدة تلو الأخرى، مضطهدة السكان بطردهم من ارضهم، لإنشاء مستوطنات جديدة او لتوسيع القائم منها، وامام مرأى من كافة الدول العظمى، والتي من المفروض ان تكون داعمة للحريات والمحافظة على حقوق الانسان.
تكررت المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، كما انها زادت بعد اتفاقية أوسلو، والتي كان من المفروض انها وضعت القواعد الأساسية لقيام الدولة الفلسطينية، ولم تعمل أي من الدول العظمى بجدية على انهاء الاحتلال، ولم تعمل على فرض الحد الأدنى من العقوبات على إسرائيل لإيقافها عن القيام بخرق القانون الدولي وإعادة الحقوق لأهلها، كما تعاملت مع ما حصل في الأراضي الأوكرانية، لا بل حتى ان الرئيس الاوكراني الذي تعاني دولته من الاحتلال، ذهب للوقوف مع إسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين، وهو الذي يعاني مما يعانون.
بقي الأردن وبقيادة الملك، وحيداً، يناضل من اجل التوصل اجل عادل للقضية الفلسطينية، باعتبارها الأساسية، وما دونها من قضايا المنطقة، تعتبر ثانوية بالنسبة لها، ومحذراً العالم من خطورة الإبقاء على الصراع بدون نهاية عادلة، على الامن والسلم العالمي. واستمر العالم بالنظر الى ان موضوع القضية الفلسطينية في طريقة للتلاشي، وحسب ما روجت له حكومة التطرف الإسرائيلية. الى ان جاءت احداث 7/10/2023، والتي هي نتيجة حتمية لمجموعة من التراكمات والتي تمارسها الحكومات المتطرفة في دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين وارضهم والأماكن المقدسة في القدس وخاصة المسجد الأقصى.
ان قوة الحدث أصاب حكومة نتيناهو المتطرفة بصدمة، أصابها بانعدام الرؤية المستقبلية وانغلاق للأفق السياسي مع ان الحدث لم يشكل تهديد وجودي لإسرائيل كما يروج له بعض القادة المتطرفين فيها، مما دفعها للإعلان عن حرب انتقامية، مدعومة فيها من قيادات دول كبرى، سارعت لزيارتها، مقدمة دعم عسكري ومالي غير مسبوق عبر التاريخ لتمكينها من الدفاع عن نفسها، متناسين بانها دولة احتلال ما زالت ترفض تنفيذ قرارات مجلس الامن الدولي منذ عقود ودون محاسبة.
انطلقت إسرائيل في حربها، منطلقة من عقيدة التطرف لقيادتها الحالية، الهادفة لقتل الجميع دون استثناء (مع ايماننا المطلق بعدم جواز قتل الأبرياء من البشر مهما كانت جنسيتهم او عقيدتهم)، وهذا ما صرح به نتيناهو عندما شبه الفلسطينيون بالعماليق (الجبابرة) والذي يجب ابادتهم جميعاً. ان مثل هذه التصريحات غير المسؤولة من قبل رئيس الحكومة الإسرائيلية لم ينتقده أحد من قادة العالم عليها، بل بات يمارسها جيشه على ارض الواقع، ولم تدينه قيادات الدول العظمى عليها، ولم تطلب منه وقفها حتى تاريخه.
اعادت هذه الحرب اهتمام أمريكا مباشرة بالشرق الأوسط، بعد ان ابتعدت عنه نوعاً ما خلال السنوات الماضية (بعد احداث الربيع العربي) لكي تتفرغ للحد من النفوذ الصيني المتنامي، والذي يشكل خطراً وجودياً عليها، ومواجهة التمدد الروسي في الأراضي الأوكرانية، مطمئنة الى ان إسرائيل قد وصلت لمرحلة قادرة فيها على ادارة المشهد في المنطقة وكما تريد، والإبقاء على القضية الفلسطينية مفتوحة دون حل نهائي، مقتنعة بانه يمكن تجاوزها عن طريق فرض الامر الواقع والتوسع بالعلاقات مع الدول العربية. بالمقابل كانت الصين تتغلغل بهدوء في المنطقة، مما أحدث خلل في العلاقات الجيوسياسية بين دول المنطقة. ان هذا الخلل دفع الكثير من دول المنطقة للعمل على خفض التوتر فيما بينها، والانفتاح على شراكات مع دول إقليمية وعالمية أخرى لم يكن ينظر اليها بالسابق، بذات الأهمية لحفظ الامن العالمي، كما هي أمريكا.
اما وقد عادت أمريكا للمنطقة وبهذه القوة، فعليها ان توقف الحرب وتنظر لإسرائيل كدولة احتلال، وان تعتبر القيضة الفلسطينية الأخطر على الامن العالمي، يجب العمل على حلها جذريا، ومنح الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم على كامل أراضيهم، وعدم الالتفات لعمليات الفصل بين أراضي الضفة وغزه، وإقامة دولة في غزة بعد الحرب، كما يدعو له البعض من القيادات الإسرائيلية، بهدف القضاء على الدولة الفلسطينية المتكاملة. ان مثل هذا الخطوات ان حصلت ستؤدي لمزيدا من الصراعات بين الأجيال القادمة مدفوعة بمزيد من الكراهية والحقد، وخاصة بعد أعمال القتل والدمار الأخيرة وغير المسبوقة.
لقد حان الوقت لقيادات الشعب الفلسطيني ان تتجاوز الخلافات، وان تسارع للاتفاق فيما بينها على الهدف الرئيسي لتجاوز المرحلة المقبلة، مرحلة ما بعد الحرب، معتمدة على ذلك على الدور الأردني بقيادته، القادرة على استشراق صورة المرحلة المقبلة (في ظل شبه اجماع عربي على عدم الانخراط مباشرة في الصراع). إذا كانت المرحلة الحالية تحمل القتل والدمار، فان المرحلة القادمة تعتبر الأخطر على المنطقة وستحدث تغيرات جيوسياسية واستراتيجية ليس فقط على مستوى الدول المنخرطة في القضية الفلسطينية مباشرة، بل على مستوى دول المنطقة بكاملها وستصل الى إعادة تشكيل التحالفات وسيكون لها دور أكبر من دور الحرب الروسية في تحديد شكل النظام العالمي القادم مهما كانت نتيجةً هذه الحرب.