قبل شهر من الان، كان المجتمع الدولي شبه مقتنع بان القضية الفلسطينية قد نسيت، ولأسباب مختلفة، منها انشغال المنطقة بإحداث الربيع العربي وما تبعها، والخلافات العربية والعربية الايرانية، والتدخلات الأجنبية في الأراضي السورية، والانقسامات الفلسطينية وقوة تأثير الدعاية الاسرائيلية من قبل حكوماتها المتطرفة بالرأي العام الغربي. يضاف إلى ذلك تلاقي بعض الأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية مع استراتيجيات دول عالمية وإقليمية طامحة في الاستيطان والتوسع وعلى حساب الارض العربية.
ان انشغال دول المنطقة بمحاربة الإرهاب الداعشي وغيره، منح المتطرفين من الاسرائيليين فرصة كافية للتوسع في الاستيلاء على اراضي الفلسطينيين والعمل على تنفيذ خطة برافر الهادفة إلى تهجير سكان النقب الأصليين وتدمير قراهم وتشديد الحصار على غزه. كما استغلت إسرائيل تفوقها الاستراتيجي، فتوسعت في علاقاتها مع دول الاقليم، حتى باتت تشعر بأنها قادرة على الاندماج الاقتصادي والأمني في المنطقة وأنها قادرة على الانتهاء من العدوات دون الأخذ بعين الاعتبار اية أهمية للقضية الفلسطينية.
إلا انه يسجل للأردن وقيادته، والتي بقيت بوصلتها القضية الفلسطينية، ودأبت بالتذكير في كافة المحافل الدولية بخطورة الوضع في الشرق الاوسط، محذرة من الممارسات المستمرة في التوسع بالاستيطان واعمال القمع والحصار من قبل الحكومات الاسرائيلية وخاصة المتطرفة منها. الأمر الذي دفع جلالة الملك لتحذير قادة العالم قبل فترة وجيزة، بان الوضع قابل للانفجار في أي لحظة كنتيجة لزيادة أعمال التطرف والاعتداءات المتكررة على المسجد الاقصى، ما لم يكن هناك حلا للقضية الفلسطينية يعيد الأمل لأهلها للعيش بسلام وكرامة كبقية شعوب العالم.
جاءت لحظة الانفجار، واندلعت الاحداث، في ظل حكومة اسرائيلية تعتبر الاكثر تطرفا، يقودها شخصا لا يؤمن بالسلام وهو الذي سبق له وقبل أكثر من عقد من الزمن ان صرح قائلا بان اتفاقيات السلام لا تحمينا، وهو القائل ايضاً، بان البقاء مع الدمار والخراب وإراقة الدماء وازدياد الكراهية أفضل من السقوط.
انتهى شهر، ونزفت دماء الأبرياء بكميات قد تكفي لتغير لون مياه البحر الميت، ولا نعلم كم من المفروض ان ينزف منها، حتى يقتنع العالم بإيقاف الحرب ومنع إسرائيل من ارتكاب جرائمها، وهي التي ارتكبت ثلاثة من أصل خمسة من افعال الإبادة الجماعية، وذلك حسب اتفاقية الابادة الجماعية، كما اشار اليها Segal.
اننا نقف اليوم امام حرب إبادة لا تشبه غيرها من حروب العصر الحديث، وبوحشية اسرائيلية تفوق قدرة العقل البشري الطبيعي ان يتخيلها (من حيث عدد الضحايا وخاصة الأطفال منهم، والذي قارب عددهم بين شهيد ومفقود تحت الأنقاض 6000 طفل حتى اللحظة، مساء 6/10/2023. وهنا قد نتسأل، هل قتل الأطفال يعتبر تطبيق عملي لتصريح وزير الدفاع الاسرائيلي، بان هذه الحرب سترسم مستقبل إسرائيل ل 75 سنه قادمة، واعتبارها نية مسبقة للإبادة الجماعية لأطفال فلسطين لمنع تكاثر الفلسطينيين مستقبلاً).
على الرغم من صغر الرقعة الجغرافية، الا ان قوة الصراع اخرج اداراته إلى خروج خارج حدود المنطقة ولتصبح بيد القوى الكبرى، والمتصارعة فيما بينها بأدوات جديدة، وتتشابك وتتعقد الحسابات الدولية والإقليمية، والفلسطينيين، هم وحدهم من يدفع الثمن بالدماء.
سعى نتيناهو ومنذ البداية لتوسيع الحرب مع دول الجوار، لتحقيق نصر سريع على حساب تلك الدول بهدف ادخالها في الصراع وبشكل مباشر وقلب الموازين. وهو الذي راهن على حماسة الشارع وعواطف أبناء المنطقة والتي قد تدفع قادتها للانخراط المباشر في الصراع، متناسياً ان القرارات الاستراتيجية لا تؤخذ بناء على العواطف والحماسة الشعبية.
بقي الفلسطينيون يدفعون الثمن، ويتدبرون امرهم مع الة القتل الإسرائيلية والتي تركز على الانتقام من المدنيين الأبرياء (اعتقد ان ما قتل من المقاتلين من حماس اقل مما قتل من جنود الجيش الاسرائيلي) وخاصة الأطفال لترويعهم ودفعهم للهروب من وطنهم، كما حصل في عام 1948. لقد دفعوا بالفعل الجزء الاكبر منه، ومن الواضح ان المعركة ستنتهي قريباً، والتي وقف فيها الأردن بقيادته الهاشمية لجانبهم وبكل قوة وامكانيات متاحة، وكذلك بعض الدول العربية بدرجات متفاوتة، لإحباط الأهداف التي وضعها نتنياهو لنفسه، بعيداً عن بعض الأطراف الإقليمية المزاودة والتي تسعى لتحقيق مكاسب لتوسيع نفوذهم وتحقيق طموحهم في المنطقة العربية (أكثر مما هو موجود عليه الوضع الان).
ان المتابع يرى وبسهولة، بان بعض الدول الإقليمية والدولية لا تخفي اطماعها في المنطقة العربية الشرق اوسطية، معلنة ان ما حدث هو بداية لاستراتيجية جديدة لجبهات متعددة قادمة، وهذا يتطابق مع الخطة التي تحدث عنها شيمعون بيرز في أواخر تسعينات القرن الماضي، والهادفة لتحويل منطقة الجغرافيا العربية إلى منطقة سياسية واقتصادية يكون فيها الدور العربي ضعيف، وهو الأمر الذي استشعرته القيادة الأردنية وحذرت من نتائجه مسبقاً.
المعركة ما زالت مستمرة، والتدمير الأكبر قد حصل وعدد الشهداء والمصابين من الأبرياء غير مسبوق عبر تاريخ الصراع، والفلسطينيون خير من يعلم بان إسرائيل لا تستطيع الاستمرار في أعمال الابادة، في ظل الرأي العام لدى شعوب العالم، والتي بدأت تتكشف لهم حقائق الابادة الجماعية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، وخاصة بعد التهديد المباشر من وزير التراث الإسرائيلي باستخدام القنابل النووية لضرب الفلسطينيين في غزه. ان مثل هذا التصريح يشكل فعل من أفعال جرائم الحرب، وهو وجود نية مسبقة للإبادة الجماعية، يضاف الى ذلك، بانه اعتراف واضح وصريح من قبل الحكومة الإسرائيلية على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والتي من اجلها در العراق (على الرغم من عدم وجودها)، وهنا من حق الجميع ان يتساءل، لماذا لا يتحرك مجلس الامن لمعاقبتها والوكالة الدولية للطاقة الذرية للتفتيش عليها؟ وهي التي أعلنت رسمياً عن امتلاكها. الأمر الذي أصبح محرجا لها، يضاف إلى ذلك عدد الضحايا من قواتها والشلل الاقتصادي الذي اصابها. والفلسطينيون هم أكثر الشعوب معرفة وخبرة في معاناة النزوح من ارضهم، الى دول الجوار، تبعه نزوح لدول عربية أخرى، ومن ثم عالمية. ان اعمال التخطيط والممارسات التي تقوم بها الحكومات الإسرائيلية المتطرفة المستمرة لتهجيرهم من ارضهم ليصبحوا سكان منطقة جغرافية لكن بدون قضية.
، في هذا المنعطف التاريخي لقضية الفلسطينية، فقد حان الوقت ان يطرح الفلسطينيون خلافاتهم جانبا، ويتوحدوا ليتمكنوا من استغلال نتائج هذه المعركة لصالحهم، واعادة قضيتهم المركزية إلى طاولة الاهتمام العالمي، معتمدين على قوة الموقف الأردني لجانبهم، وهي التي تعتبر بالنسبة للغرب، بذات الأهمية لا بل أكثر من أهمية الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة انه أصبح لدى الشعوب الأوروبية قناعة بان الخاسر الأكبر من كلا الصراعين (في شرق أوروبا والشرق الأوسط) هم الأوروبيون والعرب.
كما انه أصبح من الضروري، أكثر من اي وقت مضى ان يقف الأشقاء العرب وشعوب العالم الإسلامي وغيرها من الشعوب المؤمنة بالسلام وحقوق الانسان وبعدالة القضية الى جانب الأردن (التي تدعو قيادته الهاشمية باستمرار للقوة الجامعة بين العرب)، وهو الركن أساسي لأمن واستقرار المنطقة والتي هي قلب العالم، وهو الأكثر تضرراً مما يجري، والمستشعر لخطر التهجير الذي تسعى إسرائيل لتحقيقه باي ثمن. الأردن، والذي يقوده جلالة الملك، الأكثر خبرة في موازين القوى وتقلبات المنطقة السياسية اعد خطته منذ فترة لمواجهة الاخطار الناتجة عن الأفكار المتطرفة للحكومات الإسرائيلية ويتعامل معها بمنتهى الحكمة لإحباط كافة اشكالها ومنها خطر التهجير. كما وعلى جميع دول العالم ان تقف الى جانب الجهود الأردنية الهادفة إلى وقف الحرب والإسراع في ادخال المساعدات الإنسانية، كخطوة أولى وطارئه، يتبعها إقامة الدولة الفلسطينية دون تأخير.
ان القوة الجامعة للدول العربية وخاصة الشرق أوسطية منها، ستحبط الكثير من المخططات الدولية والإقليمية المختلفة والطامحة لتوسيع نفوذها في أراضيهم، ولكيلا تصبح دولنا ورقة بيد الآخرين، يرسمون مصالحهم على حسابها، وهم الذين لم يختلفوا على ذلك عبر التاريخ.