جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
ننزرع أمام الشاشات ونحسُّ سخونة الدم لحظة انفجاره من وريد نافر. نشم رائحة شواط الصواريخ التي تدخل البيوت وتطبخ أولادها النائمين، فنتشردق بدمعنا وقهرنا وقلة حيلتنا، ونطلق شتائمنا التحت حزامية على عالم بات أقسى من القسوة ذاتها، وإذا ما غلبنا النعاس ننام كالذئاب بعين واحدة مكاننا واليد قابضة على زناد القنوات.
انقلبت حياتي فأموت حزنا على أولئك الأطفال الذين رمدتهم هذه المحرقة، وأشفق على أطفالنا الذين شابوا معنا وهم يشاركوننا تلك المتابعات. تبدلت ملامحهم ولغتهم ولثغتهم وأفكارهم، شاخوا سريعا مثلنا من هول الصدمات وقلَّ شغبهم وانخفض منسوب ضحكهم، ولم يكترثوا بقناة الأطفال بل تراهم يندغمون معنا في مشاهد لا تقبلها قواعد الصحة النفسية. فكيف ستكبر فيهم الطفولة ومشهد الدم يلازمهم في بيت لاهيا ودير البلح؟ كيف ستكبر أحلامهم وجثث أطفال بمثل أعمارهم ملفوفة بأكفانها المرقمة.
يقول صديقي إن طفلته المتعلقة بالتلوين والرسم باتت تحرجه ليس بكثرة أسئلتها واستفساراتها المجنونة، والتي يتحتم عليه أن يحتال ليوصل لها إجابة تشفي غليل خياله المفتوح. هي تحرجه وتخيفه في آن واحد لأنها ملأت دفترها بالأحمر. كل أصابع الألوان على حالها ووحده يجف قلمها الأحمر من فرط الاستخدام.
ويضيف قائلا إن البيوت التي تكشف ناسها ترسمها طفلته حمراء، والشمس تبزغ من طرف الصفحة حمراء بأشعة حمراء حتى العصفور المنكمش فوق شجرة ترسمه أحمر. أطفالنا يحمرون طفولتهم بمشاهد القنابل وجحيم الطائرات والغارات وسيشيخون على بسمة حمراء في عيون الشهداء.
صديقي كان ينوي أن يعلم طفلته أن تميز العصفور من تغريده، فتقول هذا شحرور أو بلبل، أو هدهد، أو دوري، أو زريقي أو حبة عروس. كان ينوي أن يعلمها مع إخوتها كيف يعشقون أشجار الزيتون في كرمهم، ويقعون بحب فراشة تداعب زهرة أقحوان عند خاصرة الوادي، وكيف يغنون بحنان لغيمة خجولة تطل برأسها من أفق ضاحية الرشيد قبل المغيب، لكن الحرب أخرسته وأخرستنا جميعا ولجمت أحلامنا.
يقول اختصاصيون نفسيون إن العدوان الصهيوني على غزة سيخلف جيلاً يعاني كماً هائلاً من الأعراض النفسية الصعبة ستدفع ثمنه إسرائيل غالياً في المستقبل؛ لأنها تخلق ثقافة الحرب والعنف. ليس في غزة فقط بل في العالم العربي والعالم.
فلا بأس أن يكبر أطفالنا إذن وهم يحفظون اللغة الحمراء هذه، بل علينا أن نرضعهم حليباً مدسماً بحقيقة أن عدوهم لا يعرف إلا القتل لغة ومنطقا وأسلوبا. ولا بأس أن نتعلم من أطفالنا هذه البراءة الفطرية القوية فأصحاب القضايا الكبرى يولدون طاعنين بالعشق والمقاومة وحب الأرض إنهم يولدون وشموسهم حمراء.