جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي
لم يكتفِ سميري أن يتمنّى الأرض بهيئة قلب يمخر عباب الفضاء، لا إهليجية الشكل مبعوجة كحبة بطاطا، أو كروية يعصف بها سيل من الركلات.
لم يكتف بذلك، بل تساءل عما سيحدث حقاً، لو سقطت راءُ الحرب وضُمت حاؤها؛ فقلت إني يا أبا الحب لن أعي ما يحدث، إلا إن تركتني أتخيل الأرض بهيئة فنجان يدور دون أن تنسكب منه رشفة قهوة.. عندها تذكر أنه لم يطلب لنا حتى الآن فنجانين منها يصنعان مساءنا المطل على شرفة الذكريات.
وسميري ليس شاعراً، بل طبيب قلب يبحث عن مفاتيح أدبية لكلمة تناسب حفلا عاما يشارك فيه بمناسبة اليوم العالمي للقلب قبل يومين.
ولكي يغريني لأرتع أبعد في حقل الأمنيات، ذكّرني أن عالمنا سيحتفي بيوم القهوة بعد يومين من يوم القلب، أي في اليوم الأول من تشرين؛ فأبهجتني محاسن الصدف؛ قهوة وقلب وبعض مما يتيسر من شطحات.
رغم عدم محبتي أن نخصص لبعض الأشياء يوماً نحتفل به سنويا، كيوم الحب أو الصداقة أو العمال أو المرأة أو حتى القلب، لأنني أخشى أننا نقترف هذا الفعل البروتوكولي لشعورنا أن تلك الأشياء آيلة للانقراض والبهوت أو الخفوت، وأن اليوم الاحتفالي ما كان إلا ليهمز ذاكرتنا المهترئة، ويبث فيها شيئا من قمح الحياة.
لكني لا أملك عند القهوة إلا أن أحتفي مع المحتفين المحتفلين مرتين في اليوم أو أكثر، وحتى قبل أيام من موعد يومها الجميل.. هي محبوبتي السمراء الأولى، وقرينتي العابقة بندى المسرات.
يرى البعض أنها اكتشفت في إثيوبيا وقد افتخرت قبل أيام بزيادة كميات إنتاجها.. آخرون يقولون إن القهوة عُرفت للمرة الأولى في اليمن يوم كان سعيداً، ويضيفون أن راعياً اكتشفها بعد ملاحظة أن أغنامه تغدو نشطة بعد أكلها.
وحين جربها وجد في نفسه شعورا لا يوصف من الزهزهة والبهجة الغامرة، ويقولون إنها سميت قهوة؛ لأنها تقهي عن الطعام، أي تجعل شاربها لا يشتهي شيئا غيرها، وهذا الاسم كما تعرفون كان يمنح للخمر القوية عند العرب، وفيما بعد، وحين حملوها إلى العالم في القرون الوسطى صارت تسمى في الغرب نبيذ العرب.
وأنا اكتشفتها في الرابعة من عمري بعد أن كنت أرعى قطعانا من الغيم من شباك يطل على جبل بعيد، وتحديدا قبل أن تضبطني أمي رحمها الله متلبساً بلعق بقايا الفناجين إثر مغادرة جاراتها. وأذكر كيف أخذتني إليها، ومسحت عن خاتم فمي الشاربين الزائفين المضحكين، ثم انهالت عليّ بالقبلات الصاخبات، داعية ربها أن أكبر لينبت لي شاربان يرقص فوقهما الصقر.
وحين صرت في الخامسة حفظت من أبي رحمه الله أبياتا ما زلت أنشدها بذات الحماس الطفولي، أنا المحبوبة السمراء، وأجلا في الفناجين، وعود الهند لي عطر، وذكري شاع في الصين. وبعدها صرت أرافقه إلى سهرات الأعراس، وأتحمّص غضباً وقهراً إذا ما تجاوزني صبّاب القهوة، ولم يسكب لي فنجاناً أهزّه بعد أن أروى كما يفعل الكبار.
العرب تسمي الماء والتمر بالأسودين، وفي عالمنا اليوم ثمة أسودان جديدان يحركانه أو يحرقانه؛ القهوة والنفط. ولربما أن سميري لن يتفاجأ أبداً حين يعرف أن الأولى هي السلعة الثانية التي يتداولها البشر بعد النفط، وأن أكثر من ثلاثة مليارات فنجان تصنع منها يوميا، ولهذا يعجبني أن أنضم لحماسة سمير الأمنيات وأقول لعالم مفعم بالويلات: ما دمنا نرتشف كل هذه القهوة، فلماذا لم تقهنا عن الحروب والكروب والشرور والغرور والمنغصات؟