النسخة الكاملة

الأغبياء الواثقون

الخميس-2023-05-31 10:51 am
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - بقلم رمزي الغزوي

صحيح أنني لا أعرف من أين تبنعُ أنهار الثقة عند بعض رواد الفضاء الأزرق « فيسبوك» في أيامنا هذه منطفئة الألوان. لكني أشعر كغيري من الصامتين المكتفين ببحلقة العيون كيف تتدفّق هادرة تلك الأنهار دون أن تفرش على جنبيها، ولو خطاً ضيقاً من الاخضرار. لا أعرف من أين تأتيهم الثقة الأكيدية لتمنحهم قدرات التنظير والحديث في كلِّ شيء، وبأسلوب فيه نَفَسٌ يعلو على أنفاس العلماء العارفين.

هؤلاء هم المتفوقون الزُرق الذين يتسيّدون سنام المشهد الآن ويلوّحون بأرجلهم. هم يفهمون في كلِّ شيء، بدءاً من قلي العوّامة المدعومة بهريس البطاطا، إلى تفاصيل عملية تخمير كعكة اليورانيوم الصفراء في أتون المفاعلات النووية. هم ضالعون في شرح ركائز الاقتصاد الياباني وتقاطعاته مع الجارة الحمراء. هم خبراء في علم الطفولة وخصائص المراهقين، وقادرون على تحديد أسباب تدني مدى الرؤية الأفقية عند تلعثم شروق الشمس في بطون الوديان. هم متمرسون في تفكيك جديلة الحامض النووي الريبوسومي منقوص الأكسجين DNA، ويستطيعون موازنة معادلات الطاقة استناداً إلى النظرية النسبية للعم آينشتاين.
ولن يفوتك أن تلحظ كم هم فقهاء في الشريعة وعلم الإفتاء جناح التحريم والتحليل. وهم ساسة يشرحون مآلات الصراع الروسي الأوكراني ويقفون على أسباب توتر العلاقة بين هندوراس والسلفادور، ويربطون العلاقة بين الجنس الآري والانجلوسكسون، ويعرفون ماذا يباع في سوق العاصمة الطاجكية دوشينبه حتى آخر تمثال يعلوه الصدأ للرفيق لينين.

تجلّت في فضائنا الأزرق ظاهرة «وهم التفوق» بكل ضروبها وشجونها وصخبها المقيت المميت. فالبعض بات لديهم منصة يطلقون منها ما يريدون، وكيف يريدون، دون أن يعوا ماذا يريدون. وهذا الفضاء قد فرض على الجميع أن يدلوا بدلوهم، فلا مجال لأن تقف أو تتوقف، ولا مكان لك في صف المنصتين المتعلمين السائلين. كل واحد بات يحاجج ويعلل ويحلل ويحرم ويستنبط ويستنتج ويقترح. وماذا ينقصه كي لا يفعل هذا؟.

في ذات الحين واليقين نرى أصحاب الاختصاص يحجمون عن إبداء الرأي بشكل عاجل حتى ولو كانون عارفين، ويطلبون أن نمهلهم في أية قضية قد تشق الأفق؛ لمزيد من التحليل والتدقيق والمراجعة. ولكن غيرهم سريعو الفتوى، ممتلئون باليقين حتى نوافيخ رؤوسهم، وهذا يذكرني بما كتبه الفيلسوف برتراند راسل عن الأغبياء الواثقين، والأذكياء الممتلئين بالريبة، وبما قاله تشارلز داروين من أن الجهل في كثير من الأحيان يولّد الثقة أكثر من المعرفة.

من أجل هذا عليكَ ألا تستهجن تسيّد التافهين وركوبهم ذرى المشهد. عليك ألا تستكثر عدد المصفقين وحشود المسبحين بسطوتهم وحمدهم، وزرافات الماشين في مساربهم. عليك ألا تسأل عمن وضعهم في مكانتهم هذه. بل اغسل يديك وارح روحك، فنحن نرزح في زمن يعلي من شأن الرغام والخشب.

ثم عليك ألا تتوقع منهم إلا الغرور المتفاقم بعد صمتك عنهم. بل وقد يقصونك عن مكانتك، وقد قالها الأمام علي بن أبي طالب من قبل قرون: ‏»إذا وضعت أحداً فوق قدره؛ فتوقّع منه أن يضعك دون قدرك». نحن في زمن العضلات الهوائية وفهلوة استعراضها. زمن يقصي الجواهر ويقبل بالزائف الرخيص.