جفرا نيوز - بقلم مهدي مبارك عبد الله
اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الحكومة اللبنانية والكيان الإسرائيلي التي ابرمت في 27 تشرين الأول 2022 بوساطة المبعوث الأمريكي عاموس هوشستين لا زالت عضة طرية ولم تجف تواقيع الأطراف على اوراقها بعد الا ان التطورات السياسية التي جرت مؤخرا في إسرائيل وانتصار جبهة المتطرفين اليمينيين والفاشية الصهيونية في الانتخابات النيابية الاخيرة وبعد عودة نتنياهو رئيس حزب الليكود للسلطة في الجولة الخامسة أصبحت تثار العديد من التساؤلات والشكوك حول مصيرها في ظل سيطرة المعارضين لها على الرغم من أن نتنياهو لم يتخذ اي موقف جديد من الاتفاقية منذ إعلان فوزه
قد يكون مفيدا الإشارة إلى أن هوشستين عراب الاتفاق ولد في فلسطين المحتلة ويتحدث اللغة العبرية بطلاقة ويعرف عن نفسه بأنه يهودي أرثوذكسي يعيش حاليًا في الولايات المتحدة وخدم في جيش الاحتلال في التسعينيات ثم انتقل إلى الولايات المتحدة فور انتهاء خدمته العسكرية حيث شغل مناصب في الإدارات الديمقراطية وهو صديقً وفي لإسرائيل ومن أقرب مستشاري الرئيس جو بايدن زار عائلته في القدس المحتلة خلال رحلاته المكوكية بينها وبين بيروت حتى أن الإسرائيليين لا يخفون اندهاشهم من قبول اللبنانيين له كونه وسيط، مع أنه يهودي وإسرائيلي
خلال حملته الانتخابية وقلبها وصف نتنياهو الاتفاق ضمن برنامجه الدعائي بأنه مشكوك فيه ويعتبر القبول به خيانة عظمى لإسرائيل واذلال واستسلام وخضوع من يائير لبيد رئيس الحكومة الإسرائيلية لمطالب وشروط حسن نصر الله قائد حزب الله اللبناني كما انه جرى اعتماده دون اجراء استفتاء وطني بشأنه او مناقشته عليه في الكنيست
وقد اكد نتنياهو مرات عديده أنه بدون الاستفتاء لا يعتبره ملزم له وأنه سوف يلغيه إذا تولى منصب رئيس الوزراء ويفعل به ما فعلته باتفاقية أوسلو لأنها بحسب رايه كانت اتفاقية استسلام وفشل من جانب الحكومة اليسارية آنذاك وعليه لا زالت الاسئلة المهمة في هذا الصدد تطرح بأشكال مختلفة منها على سبيل المثال هل يستطيع نتنياهو إلغاء اتفاقية الحدود البحرية مع لبنان وهل ستصمد عندما يتولى مقاليد الأمور وهل سيلتزم إسرائيل بجميع بنودها
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق لابيد اعتبر الاتفاق الذي تم توقيعه بشكل غير مباشر من قبل الرئيس اللبناني ميشال عون انجاز كبير لحكومته اشترى فيه الأمن للإسرائيليين وأزال عملياً خيار الحرب مع حزب الله
الملاحظ في هذا الشأن ان نتنياهو خلال السنوات التي قضاها في السلطة أثبت وحلفاؤه خلالها أن استراتيجيتهم الفعلية تقوم على ( التهديد أكثر من التنفيذ ) على الرغم من نهجه وسياساته المتطرفة على المستويين الداخلي والخارجي الا انه وفي مراحل مختلفة تجنب الدخول في صراع مباشر مع فصائل المقاومة الفلسطينية كما اضطر لقبول العديد من الاتفاقيات التي ورثها عن القادة الاسرائيليين السابقين مثل اتفاقات أوسلو عام 1993 التي ادعى حينها أنه سيفككها بعد توليه منصبه عام 1996 لكنه لم يفعل بل وافق على اتفاقيات إعادة نفوذ السلطة الفلسطينية على مدينة الخليل التي يعتبرها اليهود في كتبهم المقدسة مهد الآباء الأوائل
كما وقع نتنياهو عام 1998 اتفاقيات واي ريفر مع الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقد ظل ملتزماً بمعاهدة السلام عام 1994 مع الأردن التي وقعها إسحق رابين حتى أنه قبل على مضض الانسحاب الإسرائيلي عام 2005 من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية والذي نفذه رئيس الوزراء أرييل شارون قبل عودة نتنياهو إلى السلطة في عام 2009
يبدو لنا من خلال القراءات الموضوعية انه مقابل أي رغبة او توجه من قبل جماعات اليمين الإسرائيلي المتطرف والفاشية الصهيونية للانسحاب من الاتفاق او الغاءه سيواجهون بالعديد من المعوقات والتحديات والتعقيدات والصعوبات والمخاطر على امن الكيان واستقرار وعلى استقرار حكومة نتنياهو المنتظرة في مواجهة الأزمة الداخلية في الأراضي المحتلة في ظل تصاعد العمليات الفلسطينية المسلحة وبناء على ذلك فأن حجج نتنياهو المتكررة ضد اتفاق حكومة لابيد مع لبنان لن تجدي نفعا في ترهيب وصد المقاومة اللبنانية لوقف دفاعها المستميت عن حق لبنان في ارضه ومياهه وثرواته في أي مكان
في الواقع العملي والاعتماد على الظروف القائمة لن يكون لحكومة اليمين المتطرف الجديدة برئاسة نتنياهو سلطة أكبر من حكومة لبيد السابقة التي استخدمت التهديد بكل الوسائل و الأدوات العسكرية والعناصر الخفية لإجبار المقاومة على تقويض حقوق لبنان البحرية لكن حزب الله ظل متمسكا بالحفاظ على المصالح البحرية للبنان واعتماد الاستنفار والتهديدات المباشر غبر إرسال طائرات بدون طيار في طلعات استطلاع لمراقبة وتصوير المعدات البحرية الإسرائيلية العائمة في المياه اللبنانية
حيث لم يكن أمام حكومة لابيد أي خيار سوى قبول مطالب المقاومة وحسب اعتراف الدوائر والسلطات الإسرائيلية نفسها سواء بشكل مباشر أو ضمني إن السبب الأكثر وضوحاً الذي دفع تل أبيب وواشنطن للموافقة على اتفاقية الحدود البحرية وفقاً لمطالب لبنان هو التدخل المباشر للمقاومة في هذا الملف وبعد التهديدات والموقف الحاسم لحزب الله والمعادلات التي وضعها السيد حسن نصر الله حول قضية الترسيم وتحذيره الإسرائيليين من أي اعتداء على حقوق لبنان البحرية وهو ما اضطر الطرفان الأمريكي والصهيوني في النهاية إلى الإسراع في توقيع الاتفاق لتجنب الدخول في مواجهة عسكرية مع حزب الله لا تحمد عقباها
للأمانة العلمية والسرد الحقيقي للأحداث لابد ان نبين بان حزب الله بعدما كان على خطوة واحدة من دخول الحرب اعتمدت قيادته بذكاء فائق استراتيجية خاصة تم تحديدها وحسابها بالكامل حيث نفذت سلسلة من الإجراءات الإعلامية والوقائية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية بشكل منتظم وهو ما أجبر واشنطن وتل ابيب في نهاية المطاف على قبول طلب لبنان فيما يتعلق بترسيم الحدود من الخط 23 وتحويل التهديدات إلى فرص دون تعريض البلاد لخطر الحرب
حتى الساعة لا توجد اي بوادر على رغبة من نتنياهو وشركاءه الراديكاليين بالانسحاب من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وان تغيرت المواقف في قادم الأيام فان المقاومة لديها خطة بديلة لهذه المرحلة بكل ما تملكه من عناصر قوة وردع تعتبرها الضامن الأكبر لاستمرار الاتفاقية بعيدا عن التعهدات والضمانات الأمريكية وعلى نتنياهو وحلفاءه ان يعلموا جيدا ان استمرار الاتفاق يشكل السبيل الوحيد امام الكيان الاسرائيلي لاستغلال موارد الطاقة الموجودة في جوف مياه المنطقة المتفق عليها وضمان أمن استثماراته ومؤسساته وان إلغاء الاتفاقية سيضر بالأمن القومي الإسرائيلي ومصالحه الاقتصادية ومستقبل التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط فضلا عن الطعن بالتزام ومصداقية تل ابيب امام واشنطن والعالم
لا شك ان نتنياهو يضع في الحسبان العلاقات المتردية مع الإدارة الامريكية وحاجتها لتخفيف عبء ومشاكل الطاقة في أوروبا وامريكا حيث تريد استغلال الغاز المدفون في البحر الأبيض المتوسط ليحل محل الغاز الروسي في خضم الأزمة في أوكرانيا وان أمريكا يمكنها الدخول في أي توتر عسكري جديد وبخلاف كل ذلك يدرك نتنياهو ايضا مدى تأثير رد الفعل العكسي المحتمل من واشنطن إذا أضر بالصفقة التي عملت إدارة بايدن جاهدة للتوسط فيها وأن أي إجراء منه لخرق الاتفاقية يعني مواجهة الحكومة الأمريكية مباشرة ويمكن أن يسبب توتر كبير في العلاقات بين الجانبين ولهذا من المرجح أن يستمر نتنياهو في انتقاد الاتفاقية اعلاميا وربما يتخذ موقفا لتعديلها كأبعد خيار وليس إلغاءها او الانسحاب منها
اللافت في السياق أن السياسيين الإسرائيليين ومجلس الوزراء صادقوا على الاتفاقية تحت ضغط مكثف من الجيش والمؤسسات الأمنية وهم الاعرف بالتجربة المريرة للحرب مع قطاع غزة العام الماضي وليس لديهم الاستعداد للدخول في أي توتر عسكري جديد وخاصةً ضد حزب الله لأنهم يعلمون أن نتيجة أي حرب مع لبنان لن تكون لها نهاية سعيدة على الكيان الإسرائيلي وهي ذات الضغوط ( العسكرية والأمنية ) التي ستواجه حكومة نتنياهو الجديدة وتقف في وجهها في المرحلة المستقبلية
الوضع الفلسطيني الملتهب في الوقت الراهن داخل الخط الاخضر والضفة الغربية وقطاع غزة وإمكانية تصعيد فصائل المقاومة للعمليات والهجمات على الجنود والمستوطنين في الأسابيع والأشهر المقبلة بالإضافة الى اضطراب العلاقات بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة والتوترات بين تل أبيب وروسيا حول الحرب في أوكرانيا وغيرها هي من بين القضايا والتحديات المهمة التي ستواجه حكومة نتنياهو فهل كل ما سبق ذكره سيخفف من نزوة المغامرة الخارجية لنتنياهو المصاب بالهوس للحفاظ على موقعه بعدما حصل على فرصة ذهبية لتشكيل حكومة ائتلافية يمينية جديدة تنقضه من القضايا والمحاكم وبعكس ذلك سيكون هنالك عواقب سلبية خطيرة على حياة الإسرائيليين لم يشهدوها من قبل
ربما يقول البعض انه لا يمكن باي حال الاعتماد على الضمانات الامريكية التي تلقتها الحكومة اللبنانية خاصة وان جميع رجال الدولة الأمريكيين والحكومات الأمريكية يشكلون نسخة واحدة تختلف فيها التكتيكات والأساليب فقط وهم الطرف الأول الذي تولى مسؤولية دعم بقاء الكيان الإسرائيلي يمارس جميع صنوف الارهاب في المنطقة ولابد ان يتحملوا المسؤولية الكاملة عن كل الجرائم والاعتداءات الصهيونية والفاشية بحق الشعب الفلسطيني
الهاجس الأكبر للخبراء والدوائر الإسرائيلية وحتى اللوبي اليهودي في امريكا يتعلق بسياسة اليمين الإسرائيلي المتطرف القادمة داخل فلسطين وإمكانية تنفيذه إجراءات وحشية تقود الى مواجهات عنيفة مع الفلسطينيين من خلال توسيع المستوطنات وتكثيف سياسات التنكيل والاعتقال والقمع وزيادة الاستفزاز والاحتقان في الضفة الغربية والقدس الأمر الذي يضع كل فلسطين على شفا الانفجار قد يكون مقدمةً للانتفاضة الفلسطينية الثالثة
بعض اللبنانيين الذين يعيش 80 % منهم تحت خطّ االفقر والجوع والبِلاد بلا ماءٍ ولا كهرباء في تَدهورٍ الليرة اللبنانيّة المستَمر والوعود الفارغة من أي مضمون اعتبروا ان الاتفاق شرك امريكي لشرعنة سرقة الغاز اللبناني من حقل كاريش وتصديره للعالم بينما ما زال حقل قانا حصة لبنان على حاله دُونَ أي محاولات للتنقيب أو حتى عمليات مسح لمعرفة حجم مخزونه من احتِياطات الغاز وان الاتفاق لن يأتي باي فائدة ولن يحسن مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء المأمول والمستفيد الأول منه كيان الاحتلال اقتصاديا وامنيا وان الضمانات الأمريكيّة مجرد وعود وهمية وخادعة بهدف التخدير والسيطرة ونزع فتيل أي مواجهة مع المقاومة
فيما اعتقد اخرون انهم غير قلقون من التبعات السلبية لنفور نتنياهو حيث يتحدثون بثقة عالية عن صمود اتفاق الحدود ويعتقدون أن وصول نتنياهو إلى السلطة لن يؤثر على استمرار تنفيذه وإن الضمانات الأمريكية تعني أن لبنان لا يخشى احتمال إلغاءه بسهولة وان خروج إسرائيل من الاتفاق ستكون له عواقب سلبية لا يمكن السيطرة عليها لأنه إذا كان نتنياهو يريد الانسحاب من الاتفاقية فهو ينسحب عملياً من الاتفاق مع أميركا بكل ما يترتب عليه من نتائج ثقيلة للغاية
أخيرا على نتنياهو ان لا ينسى تعرضه للانتقادات الشديدة في الساحتين الداخلية والخارجية جراء حربه في أيار 2021 على قطاع غزة والتي يجب ان تظل ماثلة بقوة في عقله لكونها شكلت الأثر الأكبر في هزيمته بالانتخابات السابقة لذلك من المتوقع على الأقل في المرحلة الحالية الا يسعى إلى بدء عهده بحرب مع حزب الله رغم كل التغييرات السياسية والتوجهات الفكرية التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي الا انه من المحتمل ان تبقى تصريحاته ومزاعمه بإلغاء الاتفاق مجرد مناورة ودعاية انتخابية لن يتم تنفيذها مطلقا خوفا من الدخول في مواجهة عسكرية لا طائل من ورائها
mahdimubarak@gmail.com