جفرا نيوز -
جفرا نيوز - كتب - جهاد المنسي
كانت تحدثنا عن موسم الحصاد، تستذكر أياما مضت، تشرح عن سنابل القمح والبيدر، وتتحدث عن مناطق شاسعة في محافظات المملكة سواء في ضفتنا الشرقية أو الغربية كانت مزروعة بالقمح والشعير والحمص والذرة وعباد الشمس والعدس والفول أيضا.
كانت أمي تشارك أبي رحمهما الله الغوص في تفاصيل عشقوها، تفاصيل أساسها أن الناس كانت أقرب لبعضهم البعض، والجار للجار ستر وغطا، واللحمة بقرش أو قرش ونصف، لم يكن وحش الإنترنت حل، وبات «الواتساب» و «الفيسبوك» بديلا عن سهرات الجيران متحلقين حول كاسة شاي بالميرمية أو الزعتر أو النعنع، قبل أن يتحول هذا الأخير (النعنع) لعلكة في فم هاوِ يردد (يا بتاع النعنع يا منعنع)، دون أن يعرف من يردد ذكريات أجيال طالما استهوتها كاسة الشاي بالنعنع.
ربما أكون محظوظا أكثر من غيري، إذ قدر لي مشاهدة سنابل القمح الصفراء بأم العين، ولكنني، متأسفا، لم أعش كل تلك الذكرى كما عاشها واندمج فيها أمي وأبي، ورددوا مع الحصادات أهازيج البيدر والمنجل.
نعم، رأيت أواخر ذكريات مواسم الحصاد، قبل أن تداهمها مبان شاسعة أكلت الأرض الزراعية، فسكنت بيوت الباطون والحجر، مكان الحقول، نعم، عاينت ما تبقى من مساحات زراعية تمايلت فيها سنابل القمح الخضراء قبل أن تتحول للون الأصفر إيذانا بأن موسم الحصاد قد أزف، وشاهدت ما تبقى من بيادر هنا وهناك، ورأيت حصادين يحملون مناجلهم يستبشرون بمواسم خير وبركة، ويجاهدون للحفاظ على ما تبقى من أرض زراعية ذابت لاحقا كما يذوب الملح في الماء، ورأيت فرحة أمي وأبي عندما تفيض غيوم السماء بالمطر، فهم مبتهجون لفرحة الحصاد.
روت لي أمي لروحها الرحمة تفاصيل أكثر، وعاينت بساطة الحصاد وفرحة الموسم، ورددت لنا أهازيج خاصة بالسنبلة والقمح والبيدر، وذكرت أبي رحمه الله بأحداث وتفاصيل لم يعرفها جيلي أبدا رغم أنني عاينت رتوشها ورأيت بيادر قمح تتناثر هنا
وهناك كباقي الوشم في ظاهر اليد، لا يكاد يرى إلا من خلال تفحص.
توالت السنين وسكنت بيوت الباطون مكان حقول قمحنا، وبقيت ذكريات عبدالرحمن منيف التي رواها عن عمان في أربعينيات القرن الماضي في روايته عن عماننا، وكلامه بأن البيادر وقتذاك كانت تمتد من منطقة الدوار الثاني أو الثالث حاليا إلى بيادر وادي السير مجرد ذكريات رواها منيف، وسمعتها من أبي وأمي، ورأيت ما تبقى منها أيام الطفولة والصبا.
أذكر أنني وأقراني كنا نمارس شقاوة طفولتنا، وكان للبيادر من الشقاوة نصيب، إذ كنا نداهم حقولا قريبة منا للحصول على شتلة عدس مزروعة، ولطالما تسللنا للحصول على سنابل قمح صفراء ذهبية بهدف شويها باللهب وفركها وأكلها دفعة واحدة.
بطبيعة الحال لم تكن تلك الشقاوة تخلو من صيد عصافير وحجل سواء عن طريق المقلاع أو بطريقة نصب الفخاخ التقليدية، إذ لم يكن يدور بخلدي وقتذاك أنني سأكون من أكثر الناس الرافضين لفكرة صيد العصافير أو الحجل أو الشنار أو أي نوع من أنواع الحيوانات والطيور لاحقا.
هي ذكريات فيها الكثير من المتناقضات، ولعل أكثرها إيلاما أنه لم يتبق من بيادرنا التي كانت سوى بيوت باطون أكلت أرضنا الزراعية، فغابت الحقول، واختفت خيوط الذهب التي كانت تتمايل قبل حصادها كدلع سيدة جامحة بلون شعر أصفر استعارت
من خيوط الشمس الذهبية لونها وعنفوانها وخيوطها، غابت تلك الحقول في بطن حوت العمران وعشاوئية البناء، ودوران عجلة الإسفلت وتركز الناس في عمان وتركهم لقراهم ومدنهم، فتلاشت الحقول ليس فقط في عمان وإنما في مدن ومحافظات أخرى مختلفة وبات وجود حصّاد بمنجله عملة نادرة وحدثا يستحق التصوير والرصد والمعاينة.
ترى، من ساهم في اغتيال ذهبنا الأصفر، من سرق منا حقولنا وتركنا في انتظار باخرة قمح من روسيا أو أوكرانيا أو واشنطن، ورهن خبزنا بيد من يفاوضنا عليه ويستغلنا لدوافع سياسية حينا ولوجستية أحيانا.