جفرا نيوز -
جفرا نيوز - حسن محمد الزبن
تعودت أن أراقب المشهد متأملا، وأكتب هواجسي على ورق، من أفكار ومن قلق، ففي الأيام القريبة الماضية، أطل على الشارع الأردني نخب سياسية معروفة، ورجال دولة، ورموز معارضة، نحترمها ونجلها ونقدرها، وهم يعلمون أن الأردنيين تأنس بوجودهم وتفرح مشاركتهم مناسبات الفرح والترح، والمناسبات الخاصة والعامة، وأنهم محل ترحيب في أي مضارب أو دواوين للوطن من أوله لأقصاه، وما كان الأردنيون من كافة منابتهم وأصولهم يوما إلا أهلا للطيب وحسن الضيافة، وما هم من يحمل الضغينة والحقد لا سمح الله لأصحاب الدولة والفخامة الموقرين بالواجب لمكانتهم في المجتمع، ولم يكن هذا الشعب الطيب يوما يمثل فرقا للإعدام، أو حاكما أو جلادا في ظل دولة المؤسسات والقانون، اللهم هي العفوية والبساطة في النقد، ولم ولن يكون من باب التجريح أو اغتيال الشخصية، أو تسليط أسواط التهم والتجني لقامات لها وقارها، حتى وإن غادرت مواقع المسؤولية في الدولة، فنحن بحاجة لرؤيتها وفضاء أفقها وخبرتها السياسية، لواقع تشهده الدولة، وهو حق مشروع ومصان بالدستور، لكن بالحوار والمنطق، ودون تجريح أو تشويه.
لما كانت المنعطفات والتيارات الحاقدة على تاريخ الدولة في حقب ماضية تسلط أدواتها في عمقنا الداخلي تستهدفنا من الخارج، وتسللت وأوقدت بؤر النار والفتنة في النفوس، كان التماسك الوطني بين الصفوف من أعماق الجذور إلى الفروع، قد بدد كل العبث والتخريب، وقطع كل المآرب الآثمة، وأجهض كل مخططات المؤامرة، من دول وعملاء ووكلاء وخونة، رغم كل أطياف الدخان والقلق والاكتئاب، فالجرح كان عميقا، والنزف مؤلم وموجع، والمصاب جلل، ومع الأيام استعاد الأردن عافيته، وطبب الجراح، ورتق كل الثغرات من فعل الكلام والرصاص، ورمم النفوس، ومضى إلى الأيام مقبلا غير مدبر، يبني وينجز، ويوطد العلاقات من جديد، وقد دفن الماضي بالتسامح، والوفاء للدم والبيت العربي، وهامة الوطن وكبرياؤه.
لكننا اليوم نشهد خللا، ونمر باختبار، والبعض يسعى للتشكيك، والبعض يسعى للهدم والخراب، بقصد أو غير قصد، بصفاء نية أو سوء نية، فنرى ونسمع مواطنون وقامات وطنية ورموز معارضة وطنية أيضا، يثير رأيها الجدل، ويخلق حالة من الإرباك للمشهد الأردني، فالكلام والنصوص منها المكتمل، ومنها أنصاف جُمل، ومنها ما يحمل تأويلات وتفسيرات غامضة ومبهمة، ومنها ما هو بصيغة تهكمية واستفزازية، ويخفي خلفه ما يخفي، ولغة خطاب مستهجنة لا تليق بمقام الدولة، ولا عميدها صاحب التاج، فنحن لسنا في دولة مغلقة، فكل العروبة تطل علينا، وكل العالم يسمع
فأي حجارة تلقى في صفو الماء، وأي أخلاق تعزز صناعة الفهلوية والشطارة، وكل ينسب لنفسه الفضل وعمق الفكرة، والوقوف للآخر على غلطة، أو نقرة، ورسائل مرئية وصوتية تبث على الأشهاد، وعلى الملأ في كل المعمورة، بالفيسبوك، والواتس، ومواقع التواصل الرقمية والسيبرانية، وكأنها حرب كلامية، الكل فيها يقلل من قيمة الآخر، ويسخِّف مواقفه، ويعلل عليه كل الحارة والجيران، والحجة أن الوطن في ضياع، أو أنه ينهار، هذا لا ولن يحدث، فالأردنيون بناؤون، ويملكون إرادة التغير نحو حياة أفضل رغم تقصير الحكومات، ورغم قصور السياسات العامة، ورغم كل ما يمر من ضيق ويأس، ومن وضع لكنه لن يتفاقم، سننهض ونحمل معاول العزم، فقد تجاوزنا ظروفا أحلك وأمر وأقسى مما نحن فيه الآن.
أما إذا كان الظهور لإثبات عدم الغياب عن الواجهة السياسية، أو لنزق الشعور بالتهميش أو الاستبعاد عن الساحة والواجهة في العمل السياسي، أو استسلاما لواقع ما، والدافع جلد الغير بالنقد لتحفيز الأغلبية الصامتة لخلق نوع من الافتعال والغضب، فإنني أستهجن ذلك، ولا يمكن أن يخرج عن عقول أصحاب فكر سياسي، قادوا الوطن عبر مراحل من مسيرته، واجتهدوا وانجزوا ما أنجزوا، لكن ما حصل رآه الأغلبية أنه بعيد عن الحياد، وأنه جزء من الدوافع الذاتية والرغبة في السلطة، ولا يحتكم للمنطق او يتطابق مع الوضع الراهن للمخاض الوطني.
فهل هو تغذية لتأطير الناس والإيحاء أنهم الطبقة التي تملك المعرفة والواقع السياسي الأردني من كل جوانبه، وأنهم العملة السياسية التي لم ينتهي دورها وقادرة على تسويق نفسها والاستعراض أمام النظام والشعب، في حين يراهم الأغلبية المطلقة لا يصلحون للتداول والاستثمار، ومن العبث تكرار دورهم في الحياة العامة، لأنهم ببساطة استنفذوا أنفسهم وقدّموا جل ما يستطيعون، وهم غير قادرين الآن على نفخ الروح بالتنمية أو تحقيق العدالة، التي كانت غير محسوسة في زمن ادارتهم لأركان الدولة، والمغامرة الأكبر في إعادتهم للواجهة السياسية، لأنه لا محالة لن يكون هناك مخاض جديد يصدر عنهم سوى الإخفاق وعدم القدرة على حمل الولاية العامة.
فالأردنيون ليس للتجريب، والمجرب لا يجرب، ونحن أحوج من أي وقت مضى إلى طاقات جديدة شابة قادرة على إحداث تغير جيوسياسي نتقبله ويلقى الرضا الشعبي، نخب جديدة فيها من الحنكة والعقل الراشد والوعي العميق ما يقدم مصلحة الوطن العليا على ما سواها، ويختلجها الضمير الوفي للمبادئ، ولم يدخل الإنعاش وقادر على تحفيز كل الضمائر الحية ليكون لها دور في تهجين الضمائر الضعيفة أو المأجورة التي انزلقت عن الوطنية والخوف من الله.
وإذا كانت النخب تتصدر المشهد في الشارع الأردني بحجة زرع الوعي في العقول، وبث الشعور فيه أنه قاصر النظر، أو فيه جهالة، أو أنه ضحية أو لعبة، وأنهم مع مصالح الشعب وحقوقه، فإن هذا الشعب الذي يُحترم ويقدر أينما حل يرى أنهم في عقود ماضية كان من بينهم من ساهم في سياسة صناعة الفقر والجوع، ومصادرة أحلام الكادحين، وسببا بانزياح قصري للطبقة الوسطى بفعل سياسات عديدة أدت لانكماشها وانحدارها، وما آل إليه الوضع من خصخصة للمؤسسات حين كان الكرسي والسلطة الغرام الوحيد.
إن ما نشهده من تشويه للقيم ونحصد ثماره هو صنيعة البيروقراطيون وطبقة "الليبراليون الجدد" الذين كان خير أدواتهم الفوضى، واستئثار المصالح، والعبث بالناس بعدم اللامبالاة في حاجاتهم، مما كان طريقا للاختلاف والنقد، والصدام والمفاجأة لواقع مر ومستقبل ضبابي، مما يعني علينا أن نركز على الظروف التي من خلالها نُحكم شروط المرحلة القادمة ونحددها بعمر زمني ونخضعها للتحليل والتفكيك المدروس بعقلية جديدة تطرح تجلياتها أمام الرأي العام الأردني بوضوح، ولها خريطة طريق تنتج نظامه من خلال مؤسسات دستورية تحكم بناؤه وتصونه للمستقبل الآمن، فلم يعد ينفع التجريح أو الهجوم بمعاول بائسة، ولم يعد مجديا البكاء على ما وصل إليه الوطن.
سنطوي المشهد ونلملم صورتنا، فإذا كان ما شهدناه دوافعه الخوف على الوطن، فلتلتقي النخب والرموز الوطنية موالين ومعارضين ويقدموا ما يكتنز من آراء وفكر وخبرة بكل وضوح وشفافية وعرضها على الملك، فالبيت الهاشمي عروبي أصيل يستوعبهم، ويستوعب كل التجاوزات، وسيكون في النهاية المؤشر لبوصلة الاتجاه بالأردن ليكون أقوى بتكاتف كل الجهود والخيّرين دون منة لأحد على الآخر، فالوطن نلتقي في أحضانه، ونقبل ترابه، ولأجله نتجاوز نرجسيتنا، وكما قال خالد الكركي يوما عن الأردن " ...أنه الأرجوان" بمعنى أنه محظور التلاعب واللعب فيه أو عليه.
وعلينا السعي للإصلاح في الفكر السياسي وعدم التجريب في عقل الدولة، بأن نكون شركاء جميعا في النهضة والمضي لاحتضان الوطن حتى لا يكون مباحا، فالدولة ليس دكانا يسهل خرابها أو تصفيتها.
والله الموفق والمتمم للخير والإصلاح،،