النسخة الكاملة

هل تعود تونس لحكم الفرد الواحد ؟

مهدي مبارك عبد الله

الخميس-2021-07-28
جفرا نيوز -
جفرا نيوز - مهدي مبارك عبد الله

على مدى العشرة أعوام الماضية ظلت تونس تنتقل من أزمة سياسية إلى أخرى لكنها بشكل أو بآخر تمكنت من النجاة فاستحقت لقب ( الدولة العربية الأخيرة ) التي ما زالت واقفة ولو بصعوبة بعد عواصف ثورة الياسمين التي دشنت الربيع العربي على يد الشاب الراحل محمد البوعزيزي

لا احد منصف وعقلاني ينكر الاعيب ومؤامرات وخطايا حركة النهضة ممثلة برئيسها راشد الغنوشي وكذلك دورها المستمر في خلق العديد من الازمات والمشاكل السياسية والقانونية والعمل على اقصاء القوى السياسية النافذة في البلاد واتهامها بالتعاون مع بعض مظلات الفساد وعناصر الارهاب الدولي والتغطية على قتلة ( البراهمي وبلعيد ) والتعاون مع جماعات الإخوان المسلمين في ليبيا والجزائر وباقي المنطقة ناهيك عن علاقاتها وتحالفاتها الخارجية مع بعض القوى الإقليمية الداعمة لما يسمى بالإسلام السياسي كـ ( الدوحة وأنقرة ) وذهابها لتأسيس دولة داخل الدولة بالتعاون مع مراكز القوى المشبوهة و المؤثرة في الداخل والخارج حيث وقد تكررت زيارات الغنوشي لإسطنبول ولقاءاته مع القيادة التركية واستقباله وفوداً من الدوحة وأنقرة بمعزل عن رئاسة الجمهورية

وللحقيقة والانصاف لم تكن حركة النهضة في تونس مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر في عملها وتكتيكها وان التقيا في الايدلوجيا والمسلمات فالأولى ساومت وتنازلت طوعاً عن السلطة وأبرمت صفقات خفية لشق المعارضة لكنها رغم ذلك لم تتمكن من إحداث التغيير الاقتصادي المأمول الذي كان البلد ينتظره في حين كانت الامور بالنسبة للإنسان التونسي العادي وخاصة فئة الشباب تتجه بتسارع كبيرمن سيئ إلى أسوأ في مختلف مناحي الحياة

رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد أعلن يوم الاحد الماضي 25 / 7 / 2021 ما يشبه الحركة الانقلابية على الدستور جرت على حين غرة في منتصف الليل والناس نيام كما أعلن بيانه بكلمات منتقاه وعبارات حاسمة وهو يرفع الحصانة عن نواب البرلمان ربما تمهيدا لاعتقالهم والتحفظ عليهم ضمن مفهوم الضربة الاستباقية

ما قام به الرئيس سعيد كان متوقعا من قبل بعض القوى السياسية التونسية وانه طبق بالتفاصيل الكاملة كل ما ورد في الوثيقة التي سربها موقع ( ميدل إيست آي ) البريطاني أواخر أيار الماضي والتي كان مصدرها بعض ( العلمانيين من داخل الرئاسة نفسها ) ولم تكن ابدا من صنع الإسلاميين حيث ذكر الموقع حينها إن الرئيس سعيد يعد العدة للانقضاض على السلطة والانقلاب على الحكومة والبرلمان والمؤسسات الدستورية

كما تظهر الوثيقة أن كبار مستشاري سعيد حثوه على انتزاع السلطة من الحكومة المنتخبة والسيطرة على البلاد وقد بينت الوثيقة بأنه سيدعو إلى اجتماع عاجل لمجلس الأمن القومي في قصره بقرطاج تحت ستار وحجة الوباء فضلا عن الوضع الأمني والحالة المالية للبلاد وهو ما حدث بالفعل بالإضافة الى تعيينه مدير عام الأمن السياسي خالد اليحياوي للإشراف على وزارة الداخلية ليقود عملية القمع والقهر ضد السياسيون والإعلاميون والمحتجون والمعترضون وأنه سيتم نشر القوات المسلحة على مداخل المدن والمؤسسات والمرافق الحيوية ( لم يكن ما جرى له أدنى علاقة بالفيروس بل كان قد خطط له في وقت كان فيه الفيروس تحت السيطرة )
لم يخفي الرئيس سعيد منذ فترة بعيدة رغبته في تغيير النظام السياسي في تونس حتى في الوقت الذي لم تكن فبه جبهة النهضة مسيطرة ( لا على البلد ولا على الحكومة ) وكانت مشغولة تقاتل من أجل تشكيل المؤسسات مثل البرلمان وانشاء المحكمة الدستورية والتي كان يؤمل فبها تعزيز وترسيخ مسار الديمقراطية في البلاد

قبل خطوة الريس سعيد الاخيرة وقراراته العاجلة تم تأزيم الأوضاع الصحية والمعيشية والاقتصادية في البلاد بالتزامن مع اطلاق حملات تحريض ممنهجة ضد الطبقة الحاكمة والمنتخبة تمهيداً لظهور الرئيس سعيد بمظهر( المنقذ والمخلّص ) للبلاد وهو ذاته ما حدث في مصر عندما تقبل الناس بأن الاخوان المسلمون هم سبب الفقر والجريمة والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأن الخلاص منهم سوف يؤدي بالبلاد للخروج من النار الى الجنة وهاهم المصريون ينتظرون منذ سبع سنين الجنة التي وعدوا بها والتي لا زال نيلها بعيد جدا او معدوم بالمطلق

من المفيد هنا التذكير بان الرئيس سعيد سبق له وان اصطدم بشكل مبدئي مع رئيس الوزراء هشام المشيشي الذي عينه وصادق عليه البرلمان إلا أن الخلافات بين الرجلين ما لبثت أن ازدادت اتساعاً عندما رفض سعيد التصديق على الوزراء الذين عينهم المشيشي والغريب ان الصدام لم يكن متعلقاً بخلاف أيديولوجي فلم يكن أي من الوزراء سياسياً ولم يكن للنهضة يد في اختيار أي منهم وكان يفترض فيها أن تكون حكومة تكنوقراط لكن الخلاف كان حول النفوذ والسلطة التي كان سعيد يريد الاستحواذ عليها بالكامل

البعض وصف ما جرى ليلة الأحد الماضي بانه ( انقلاب دستوري ) بل وانه تجاوز انتهاك الدستورية بمراحل عديدة حيث ينص الدستور على أنه حينما يتم تفعيل الفصل الذي يسمح للرئيس بأن يحوز على سلطات استثنائية فإنه يتوجب على البرلمان أن يظل في حالة انعقاد وأنه لا يمكن حله ولكن في الحقيقة أقدم سعيد على تعليق البرلمان وحال دون وصول أعضائه إليه وان تفعيل الفصل 80 يتوقف على المحكمة الدستورية التي حال سعيد دون تمكين البرلمان من تشكيلها بهدف إعاقة انجاز كيان لديه صلاحية الاعتراض على تحركاته واعتبارها غير دستورية رغم انه بموجب الدستور يختار الرئيس أربعة من أعضائها الاثني عشر

جميع الأحزاب في تونس تقريباً تعارضه من اليسار إلى اليمين ومن العلماني إلى اليساري ومن النهضة والكرامة وقلب تونس والجمهوري وحتى بعض اعضاء التيار الديمقراطي الذي تنتمي إليه عبو وكذلك كافة المؤسسات التي أقيمت بعد الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي وكل ما أوجدته ثورة 2011 من أجل وضع تونس على طريق الديمقراطية أعربت عن معارضتها لإجراءات سعيد بغض النظر عن ميولها السياسي باستثناء سامية عبو( شخصيا ) من التيار الديمقراطي والمحسوبة من انصار الرئيس التي رحبت بتحركاته وقالت ان قرارات الرئيس دستورية وتاريخية وكان ينبغي على الرئيس اتخاذ تلك القرارات قبل كما دافعت عن عدم استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان قبل اتخاذ هذه الإجراءات وحتى لحظة كتابة هذا المقال كان حزب ( حركة الشعب ) ذو التوجه القومي والمعارض لحكومة المشيشي هو الوحيد الذي اعلن عن مساندته لقرارات الرئيس واعتبرها طريقا لتصحيح مسار الثورة الذي انتهكته حركة النهضة والمنظومة الحاكمة

القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد تشكل في مضمونها النهائي خرق واضح للدستور واحتكار لكل السلطات والانفراد بحكم البلاد من حيث الاستيلاء على الحكومة ( السلطة التنفيذية ) وتعطيل البرلمان ( السلطة التشريعية والجهة الرقابية) والتدخل في القضاء الذي يتوجب أن يكون مستقلاً لحماية حقوق الناس ولم يكتف قيس سعيد بالاستيلاء على جميع السلطات بل وعين نفسه أيضاً في منصب المدعي العام على طريقة الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي حكم تونس لثلاثة عقود مستمداً شرعيته وبقاءه من خوف الناس وإرعابهم والبطش بهم

منذ شهور تبدو على الرئيس التونسي سعيد حالة عدم الاستقرار السياسي في تسيير امور الحكم حيث ظل يتأرجح بين التهديد والترطيب جيئة وذهاباً فقد زعم في شهر نيسان الماضي بأنه القائد الأعلى للجيش ولأجهزة الأمن الداخلي في البلاد بينما يضع الدستور القوات الداخلية تحت إمرة رئيس الوزراء

وفي شهر حزيران الفائت ايضا أعاد الرئيس سعيد كتابة تاريخ تونس ابان الحقبة الاستعمارية لوحده من خلال تصريحه الشخصي بأن فرنسا ليس لديها ما تعتذر عنه أثناء حكمها الاستعماري للبلاد كما أعلن بأن تونس كانت ( تحت الحماية الفرنسية ) وليس الحكم الاستعماري وإذا ما أخذنا بالاعتبار كم من التونسيين تعرضوا للاغتيال أو الاغتصاب تحت الحكم الاستعماري منذ عام 1881 تبدو لنا تصريحات الرئيس مغرقة في المغالطات والاستغراب

إذا نجح سعيد اليوم في تمرير هذه القرارات وأصبحت سارية وفاعلة واستقرت السلطات الثلاث في يده ستعود البلاد بلا ادنى شك الى عهد ما قبل الثورة وربما تشهد حملة بوليسية لتقييد الحريات من أجل تثبيت اركان الحكم كما فعل الرئيس بن علي في بداية تسعينيات القرن الماضي وهذا يعني في الواقع أن ما حدث هو انقلاباً مكتمل الأركان أشبه بالنموذج المصري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي في مصر خلال عام 2013 وكذلك الذي سعى للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا في عام 2016 وعليه فان على التونسيين الاستعداد للعودة الى ( حكم الفرد الواحد ونظام الحكم المطلق ) الذي يقوم في الباطن على الاستبداد والقبضة الأمنية الشديدة وتصفية الخصوم ثم في المرحلة الثانية الاجهاز على المؤيدين لضمان عدم وجود أي طامع في السلطة أو المشاركة في الحكم

تونس الان أمام مفترق طرق صعب ومستقبل البلاد على المحك امام اسوأ ازمة صحية تمر بها في تاريخها الحديث فضلا عن الانهيار الكامل وغير المسبوق للاقتصاد والازمة الاجتماعية الخطيرة والمدمرة والرئيس التونسي ماض قيما اقدم عليه حيث اصدر مؤخرا أمرا رئاسيا يقضي بمنع التظاهر في الساحات العامة وتعطيل العمل بالإدارات المركزية والمصالح الخارجية كما قرر منع التجمعات بالساحات العامة لأكثر من ثلاثة أشخاص ومنع التجول من السابعة مساء والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية لمدة يومين بداية من يوم الثلاثاء 27 / 7 الجاري مع إمكانية التمديد في مدة تعطيل العمل ببلاغ يصدر عن رئاسة الجمهورية اضافة الى إعفاء الكاتب العام للحكومة ومدير ديوان رئاسة الحكومة من مهامهما

بعد القرارات الأخيرة التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد أصبحت تونس أمام سيناريوين أو خيارين لا ثالث لهما إما الانزلاق نحو النموذج المصري أو النجاة عبر النموذج التركي بكل تفاصيله من هنا يتوجب على الجميع العمل المشترك والحرص على تجنيب البلاد مزيدا من الاحتقان في وقت تحتاج فيه إلى التكاتف للخروج من أزماتها وقد كان احرى بالرئيس سعيد طمئنت الشعب والقيادات السياسية ومنظمات المجتمع المدني بتقديم ضمانات دستورية تثبت حرصه على التمسك بالشرعية الدستورية وتأمين استمرار المسار الديمقراطي واحترام الحقوق والحريات والاحتكام إلى الآليات الديمقراطية في أي تغيير يرنو اليه

المتفائلون يعتقدون أنّ الشعب سيدافع عن ثورته والوقت يمضي وخصوم الثورة أقوياء ومعهم رئيس وجيش وبعض الدول الأوروبية التي كانت غير سعيدة برؤية تونس المثال العربي الوحيد تنجو حتى الآن من حكم الدكتاتورية ورغم ان الواقع يؤكد أن الربيع العربي قد مات وأن الشعب التونسي غير مستعد للعودة إلى ( حكم الفرد الواحد ) والأيام القادمة سوف تثبت ذلك حمى الله تونس وشعبها من كيد الكائدين وحقد المتربصين في الداخل والخارج وكان الله في عون مؤسساتها الأمنية والعسكرية في هذا الظرف العصيب

mahdimubarak@gmail.com
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة جفرا نيوز 2024
تصميم و تطوير