جفرا نيوز -
جفرا نيوز - مهدي مبارك عبد الله
تعود جذور الخلاف المصري الإثيوبي حول نهر النيل إلى المعاهدة الإنكليزية المصرية التي أُبرمت في العام 1929 والتي لم يكن في وقتها الإثيوبيون طرفًا فيها حيث تفاوضت المملكة المتحدة مع مصر بالنيابة عنهم وعن عدد من دول حوض النيل الأخرى التي كانت خاضعة لسيطرة البريطانيين وفي العام 1959 ( بعد ثلاث سنوات من استقلال السودان ) عن الحكم الثنائي ( الإنكليزي المصري ) وقّعت الخرطوم والقاهرة اتفاقية خاصة بهما حول نهر النيل كرست اتفاقية عام 1959 وأدخلت بعض التعديلات كزيادة حصة مصر والسودان السنوية من المياه وفي هذه المرة أيضًا لم يتم استشارة إثيوبيا ودول أخرى في الاتفاق
ولهذا السبب اعتبرت ( أديس أبابا ) لسنوات طويلة أن معاهدة العام 1929 واتفاقية العام 1959 لا تأخذان في الحسبان احتياجاتها من المياه علمًا بأن النيل الأزرق الذي ينبع من مرتفعاتها فضلًا عن نهر عطبرة بدرجة أقل و ( كلاهما من روافد نهر النيل ) يزوّدان النهر الأساسي بنسبة 80 في المئة من مياهه التي تتدفق لتصبّ في السودان ومصر
عندما أطلقت إثيوبيا مشروع سدّ النهضة في نيسان 2011 لم تستشِر لا مصر ولا السودان لانها اعتبرت أن المسألة تتعلّق بـ ( السيادة الإثيوبية (مع علمها المسبق بان أن النيل الأزرق الذي بني السدّ على ضفتيه هو المصدر الرئيسي الذي يغذّي نهر النيل ويزود مصر بالكمية الأكبر من المياه التي تعتمد عليها اعتمادًا كبيرا في حياتها لذا اعتبرت القاهرة خطوات أديس أبابا هذه بمثابة جرس إنذار لها ومما زاد الأمور سوءًا قيام إثيوبيا بالمماطلة في السماح بإجراء تقييم للأثر البيئي والاجتماعي للسد وهو شرط يفرضه القانون الدولي عند تنفيذ مثل هذه المشاريع وما تبعه من خلافات حول ملئ السد وبعض الامور الفنية الاخرى
النزاع بين مصر والسودان وإثيوبيا حول سد النهضة المعروف سابقًا باسم ) سد الألفية ) والواقع على النيل الأزرق بدأ العمل في إنشائه عام 2011 بكلفة 4 مليارات دولار لازال مستمر وقد طال أمده بعد ملء خزان السد للمرة الاولى في يوليو 2020 والذي من المتوقع أن يستغرق اكتمال ملئ الخزان كاملا ما بين 5 إلى 15 عامً وقد أوضحت الدول الثلاث مؤخرا أنّ المفاوضات بينها وصلت إلى طريق مسدود بعد جولات من المباحثات التي لا نهاية لها وبدون نتائج وقد كان لاعتراضات السودان على إطار المحادثات واختصاصات خبراء الاتحاد الإفريقيّ وضرورة تكليف الخبراء المعينين من قبل مفوضية الاتحاد الإفريقي بطرح حلول للقضايا الخلافية اسباب جوهرية في المأزق الجديد والذي ادى الى توقف المحادثات التي شهدتها الجولة الأخيرة
في ظل تعقد المواقف واحتدام الصراع بين مصر والسودان من جهة وبين اثيوبيا من جهة اخرى وانعكاس لخطورة ما الت اليه الامور وصلت برا وبحرا قبل اسابيع قليلة قوات جوية وأرتال وآليات عسكرية مصرية إلى ( قاعدة الخرطوم الجوية ) لإجراء تدريبات عسكرية مشتركة باسم ( حماة النيل ) ضمن اتفاقية التعاون العسكري المشتركة بين البلدين يشارك فيها عناصر من كافة التخصصات والصنوف بالجيشين السوداني والمصري والتي تأتى استمراراً لسلسلة التدريبات السابقة ( نسور النيل -1 ونسور النيل -2 ) في اشارة مصرية للتلويح بالحرب واظهار القوة والتهديد العلني بالجاهزية لدخول الخيار العسكري اذا ما استدعى الأمر ذلك في المقابل قالت أديس أبابا أن قوات دفاعها وجيشها قويان وقادران على حمايتها اذا ما تعرضت لأي هجوم من قبل مصر والسودان
إثيوبيا ترى في انشاء السد عامل رئيسي في خططها المستقبلية لتصبح أكبر مصدّر للطاقة في إفريقيا ستصبح ( سابع أكبر محطة في العالم ) اضافة الى توفر الكهرباء لـ 65 مليون إثيوبي محرومين منها في حين تخشى مصر التي تحصل على أكثر من 90 % من مياهها العذبة الشحيحة اصلا من نهر النيل أن يؤدي السد إلى تدمير اقتصادها كما يشعر السودان بالقلق لما يمثله سد النهضة من تهديد مباشر لخزان مدينة ( الروصيرص ) الواقعة في ولاية النيل الأزرق بالسودان على الضفة الشرقيّة لنهر النيل إذا تم الملء والتشغيل دون اتفاق وتبادل يومي للبيانات بين البلدين ولهذا تحولت اللغة التي يستخدمها السودان عند مناقشة قضية سد النهضة الإثيوبي من الترحيب الواسع إلى التشكيك والعدائية التهديد كما ان هنالك اعتراض متزايد منالبلدين ( مصر والسودان ) حول عزم أديس أبابا على الاستمرار في الملء للعام الثاني في شهر تموز القادم بمقدار 13.5 مليار متر مكعب بغض النظر عن التوصل لاتفاق مع مصر والسودان أو عدمه
ولهذا جاءت التصريحات المفاجئة التي أدلى بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي عقده بمركز تابع لهيئة قناة السويس في الإسماعيلية غداة تعويم سفينة الحاويات الضخمة التي أغلقت القناة لستة أيام والذي كان بمثابة ( إعلان حرب ) حيث هدد الرئيس السيسي قائلا بان ( يد مصر طويلة ولا يتصور أحد أنه بعيد عن قدراتنا مياه مصر لا مساس بها والمساس بها خطٌ أحمر وسيكون رد فعلنا في حال المساس بها الإقدام على أمر سيؤثر على استقرار المنطقة ) وربما يكون هذا التحذير الأخير لإثيوبيا المستمرة في الاستفزازات والتحدي واللامبالاة
هذه هي المرة الأولى بعد سنوات من اللجوء إلى الدبلوماسية والرهان على الوساطات الإفريقية والأمريكية التي انهارت جميعها أمام العناد الإثيوبي والذي ظهر جليا بعد إبلاغ إثيوبيا الولايات المتحدة بقرارها الحاسم عبر مبعوثها إلى السودان (دونالد بوث) بأنها ستمضي قدما في المرحلة الثانية من ملء خزانات سد النهضة في موعده المحدد في تموز المقبل وقد أكد ذلك علنا ( آبي أحمد رئيس وزراء ) في كلمة له أمام البرلمان الاثيوبي وما تبع ذلك قيام الحكومية بولاية بني شنقول كوموز الإثيوبية بتنفيذ عملية إزالة للغابات محاورة للسد من أجل تسهيل ملء المرحلة الثانية وتخوفا من أي مخاطر لاحقة قام السودان بتفريغ خزان (جبل أولياء) جنوبي الخرطوم للحد من الآثار المتوقعة جراء المليء الأحادي لسد النهضة كما دعت وزارة الري السودانية المواطنين إلى أخذ الاحتياطات اللازمة للحفاظ على ممتلكاتهم وأرواحهم
تهديدات الرئيس المصري السيسي القوية بأنه لن يسمح لأي أحد بـ ( أخذ نقطة مياه واحدة من حصة مصر ) والتي ان حصلت ستجر المنطقة الى حالة من عدم الاستقرار لا يتخيلها أحد التفسير الوحيد لهذا الكلام أنها التلويح بالحرب والذي جاءت بعدما يئس الرئيس المصري من امكانية حل أزمة سد النهضة عبر الوساطات الإفريقية والأمريكية وقد توصل إلى قناعة بأن إثيوبيا تكسب الوقت ولم يبق إلا شهرين تقريبا على موعد المرحلة الثانية من بدء ملء خزانات السد التي اعلنتها
لذلك أراد الرئيس السيسي توجيه رسالة عاجلة وواضحة لأمريكا وأوروبا ومبعوثيهما بأنه لن يتردد في اللجوء للحل العسكري خاصة بعد أن اطمئن للأوضاع في ليبيا بعد اتفاقات المصالحة مع تركيا وان السودان يقف بالكامل حكومة وشعبا في الخندق المصري لأنه يواجه تهديدا وجوديا مماثلا باعتبار أن ملء المرحلة الثانية من خزان سد النهضة يشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي والمائي لمصر والسودان واللافت هنا ان توقيت هذه التصريحات المصرية القوية التي تلوح بالخيار العسكري بهذا الوضوح تعكس حالة من الثقة المتزايدة لدى القيادة المصرية يعززها الالتفاف الشعبي غير المسبوق حول القيادة والمؤسسة العسكرية والرغبة في انتزاع حقوق مصر المالية حتى لو بالقوة والحرب
السلطات العسكرية المصرية أقدمت على ثلاث خطوات في الأسابيع القليلة الماضية في إطار التحضير للخيار العسكري الذي بات يتقدم على الخيارات الدبلوماسية وبشكل متسارع الأول إرسالها أنظمة دفاع جوي إلى السودان لحماية أجوائه من أي رد فعل عدواني إثيوبي محتمل والثاني إرسالها مستشارين عسكريين مصريين للتمركز في منطقة الحدود السودانية الإثيوبية المتوترة حاليا للمراقبة والاستطلاع ومساعدة القوات السودانية الثالث إيفادها خبراء لدراسة طوباغرافية المنطقة الحدودية السودانية الإثيوبية القريبة من سد النهضة ( على بعد 25 كم ) ووضع الخرائط اللازمة تحسبا لتوسع دائرة الصراع أو اللجوء إلى الخيار العسكري وقد نفت مصر إرسالها أي طائرات حربية مصرية إلى السودان لأنه سيسهل رصدها عبر الأقمار الصناعية ولكن حتى هذا الاحتمال غير مستبعد وهو مرهن بالتطورات في الايام القادمة
السد الاثيوبي بالنسبة لمصر ولسودان يعني تهديد 20 مليون سوداني وأكثر من 5 ملايين أسرة مصرية بخطر الموت جوعا علاوة على حدوث فيضانات وتدمير للسدود السودانية وتخفيض إنتاج كهرباء السد العالي إلى النصف إن لم يكن أكثر وتقليص الثروة السمكية في بحيرته إلى معدلات خطيرة من الصعب التنبؤ بدقة بما يمكن أن تحمله الأيام والأسابيع المقبلة من مفاجآت في هذا الملف الشائك المتفجر الذي ترتفع درجة سخونته بشكل متسارع في ظل توصل القيادتين المصرية والسودانية إلى قناعة بعدم جدوى الاستمرار في المفاوضات
الواضح انه بعدما تجاوزت الامور مع الاثيوبيين مرحلة الإمهال والمخاطبة بالعقل المنطق والحكمة وبعد سقوط كل المحاذير والتحفظات بشان استخدام الخيارات الصعبة وخروج الدبلوماسية الرشيدة والهادئة نهائيا من المشهد وصل البلدين ( مصر السودان ) الي المرحلة التي لم تعد فيها خطوط حمراء ولم يبقى سوى الدفاع عن النفس والحقوق المشروعة ومواجهة التحديات المفروضة بالحياة أو الموت والفناء او البقاء خاصة وان اثيوبيا لا زالت تكرر بانها ماضية في التعبئة الثانية باتفاق او بدونه مما يعني انه لا قيمة للمفاوضات لديها ولا معنى للتفاوض معها سيما وان التعبئة الثانية للسد دون اتفاق تعني (خرق واضح لاتفاق المبادئ ) بين البلدان الثلاثة وأن التعنت الاثيوبي بلغ مداه الأقصى
ربما لا يمكن التنبؤ بما قد يحدث خلال الايام والاسابيع القادمة لكن المؤكد اليوم ان الكلمة الفاصلة الآن لم تعد للدبلوماسية ولا لمد حبال الصبر الي ما لا نهاية وانما للقوة التي يمكن ان تعيد للنظام الاثيوبي الطائش الى صوابه وترغمه علي التوقف عن تهوره وان يلزم حدوده ويمتنع عن تهديد حياة جيرانه بهذه السلوكيات المستفزة والتي لا يريد ان يتراجع عنها ساندا ظهره الى الدعم الامريكي وبعض دول الاتحاد الأوروبي التي باتت تقف في الخندقين الإثيوبي والإسرائيلي ضد كل من مصر والسودان
نختم بالقول بكل تأكيد ان الشقيقتان ( مصر والسودان ) حماهما الله وشعبيهما من كل شر وسوء لا تريدان الحرب ولا تسعيان إليها ولكن إذا ما وصلت الأمور إلى تجويع الملايين من الأسر المصرية والسودانية وتدمير البلدين اقتصاديا وتمادي اثيوبيا في الاستفزاز والرعونة فلا خيار آخر غيرها واننا معهما قلبا وقالبا في انتزاع حقوقهما المائية كاملة سلما أو حربا
mahdimubarak@gmail.com