جفرا نيوز -
جفرا نيوز - مهدي مبارك عبد الله
في خطوة تعد رمزيةً إلى حد كبير لكنها من المتوقع أن تفاقم التوتر المتسارع مع تركيا بعدما اعتبرت تغيراً جذرياً في سياسة الحذر التي تبناها البيت الأبيض منذ عقود في صياغاته المختلفة حول ضحايا ( المذابح بحق الارمن في عهد الدولة العثمانية ) حيث كانت توصف دائما بانها ( شر عظيم )
في 24 / 4 / 2021 وتنفيذا لوعده في حملته الانتخابية اعترف الرئيس الأميركي جو بايدن بما عرف تاريخيا بالمجازر بحق الأرمن ليصبح أول رئيس أمريكي يصف مقتل 1.5 مليون أرميني على يد السلطنة العثمانية عام 1915 بأنه ( إبادة ) وقد كتب بايدن في بيان اصدره بهذا الخصوص قال فيه ( ان الأميركيون يكرمون جميع الأرمن الذين لقوا حتفهم في الإبادة قبل 106 أعوام ) وأضاف ( نحن نؤكد التاريخ لا نفعل ذلك لإلقاء اللوم على أحد وإنما لضمان عدم تكرار ما حدث ) وقد ابلغ الرئيس الامريكي نظيره التركي بقراره خلال اول محادثة هاتفية جرت بينهما مؤخرا بعد ثلاثة أشهر على تنصيب بايدن وقبل يوم واحد من إحياء الذكرى السنوية الـ 106 لمذابح الأرمن المزعومة
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سرعان ما ندد بالقرار ورد عليه برسالة بعث بها إلى بطريرك الأرمن في اسطنبول اعلمه فيها بان هنالك أطرافاً ثالثة تتدخل في شؤون بلاده وتعمل على تسييس الجدل الدائر حول مفهوم الإبادة بحق الأرمن وإنه يرفض تماماً الخطوة الأميركية
كما قال وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو على حسابه في تويتر ( ليس هناك شيء لنتعلمه من أي أحد بشأن ماضينا ولن نتلقّى دروساً من أحد حول تاريخنا ) وان الانتهازية السياسية التي تمارس اليوم هي أكبر خيانة للسلام والعدل واننا نستنكر بأشد العبارات هذا البيان الذي استند إلى الشعبوية فقط وان الكلمات لا يمكنها تغيير التاريخ أو إعادة كتابته وقد استدعى وزير الخارجية السفير الامريكي في أنقرة للاحتجاج على ما اسماه تشويه للحقائق التاريخية والذي لن يقبله ضمير الشعب التركي وسوف يفتح جرحاً عميقاً يقوض الصداقة والثقة المتبادلة بين البلدين الحليفتين في حلف شمال الأطلسي في وقت يزداد فيه الخلاف والتناقض والصدام بين أنقرة وواشنطن بشأن عدد آخر من الملفات الساخنة والحساسة
في المقابل رحب رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بالقرار التاريخي للرئيس الأميركي وشكر في رسالة له على موقع فيسبوك الرئيس بايدن قائلاً ( هذه الخطوة القوية جداً لصالح العدالة والحقيقة التاريخية ستوفر دعماً لا يقدر لأحفاد ضحايا الإبادة الأرمينية ) وان الاعتراف بالإبادة يشكل ( مثالاً مشجعاً لجميع من يريدون بناء مجتمع دولي عادل ومتسامح )
الجراح القديمة تنزف مجدداً في كل عام والارمن يحيون ذكرى المجازر امام النصب التذكاري على تلة في العاصمة يريفان والجاليات الأرمينية تمارس ضغوطاً كبيرة في البلدان التي تعيش فيها خاصة في امريكا للحصول على اعتراف دولي بأن ما تعرض له الأرمينيون من إبادة جماعية ولا زالوا يطالبون أنقرة بدفع تعويضات مالية وبإعادة حقوق الملكية لأحفاد الذين قتلوا في المجازر بين عامَي 1915 و1918 وقد اعتبرت 30 دولة ما حدث لهم إبادة جماعية ومن البلدان التي صوتت أخيراً على قرار الاعتراف بالإبادة هولندا عام 2018 والبرتغال عام 2019.
كذلك أصدر مجلس النواب الألماني قراراً بهذا الصدد في عام 2016 وقد صفته المستشارة أنغيلا ميركل في حينه بأنه غير ملزم كما اقر البرلمان الأوروبي الإبادة الأرمينية في عام 1987 وفي 2015 حين كانت أرمينيا تحيي مئوية الإبادة تحدث البابا فرنسيس عن أول إبادة في القرن العشرين في حين لا تزال ترفض أنقرة هذا الاتهام بشكل قاطع
تركيا وريثة الإمبراطورية العثمانية بعد تفككها عام 1920 تقر بوقوع مذابح إلا أنها ترفض توصيفها بالإبادة كما ترفض مسالة التجريم حيث تؤكد أن حربا أهلية وقعت في الأناضول تزامنت مع مجاعة تسببت بمقتل ما بين 300 و500 ألف أرميني فضلاً عن عدد مساوٍ من الأتراك وانها تنفي أن تكون أعمال القتل كانت مدبرة على نحو ممنهج او انها تمثل إبادة جماعية
وفي الذكرى السادسة بعد المئة للمجزرة التي حلت الشهر الجاري انطلقت ضمت مسيرة 10 آلاف شخص حملوا المشاعل في وسط العاصمة الارمينية باتجاه النصب التذكاري وأحرقوا الأعلام التركية والأذربيجانية
يذكر ان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في عام 2019رفضت قراراً صادراً عن مجلس الشيوخ يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن بعد يومٍ واحد من تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرد عِبرَ الاعتراف بمسألة قتل الأميركيين الأصليين في الولايات المتّحدة ( الهنود الحمر ) على يد لمستوطنين الأوروبيين الذي هاجروا إلى أميركا أثناء دخولهم إلى جميع أنحاء البلاد وتهجير جميع سكّانها وابادتهم فيما اعترف سلفه الرئيس السابق باراك أوباما عندما كان مرشحاً لرئاسة في العام 2008 بأن تلك الأحداث كانت إبادة جماعية إلا أن إدارته عادت وأكدت في وقتٍ لاحق لحكومة أنقرة أنها لا تؤيّد قراراً رسمياً يعترف بتلك الجرائم بوصفها إبادة جماعية
قرار الرئيس بايدن الذي تقف وراءه اسباب سياسية بحتة مكشوفة وفي هذا التوقيت الحساس سيجعل العلاقات التركية الامريكية المتدهورة اصلا أكثر سوءاً وتوتر وسوف يسد الطريق امام أي تفاهم او تقارب بين البلدين وهو ما كان يخشاه رؤساء الولايات المتحدة السابقين وهو ايضا ما كان يدفعهم إلى التراجع عن وصف قتل العثمانيين أكثر من مليون أرميني خلال الحرب العالمية الأولى على أنه إبادة جماعية
خاصة وان تركيا كعضو حلف الناتو لعبت دوراً مهماً في التدخل العسكري الامريكي في كل من العراق وسوريا وأفغانستان لكن الرئيس جو بايدن اليوم كسر حاجز الخوف معلناً وصف الإبادة الجماعية بشكل رسمي بعد أيام قليلة من إخطار أنقرة إخراجها من برنامج تصنيع أجزاء من طائرة الشبح الامريكية ( أف 35 ) حيث فسر القرار وما قبله من اجراءات بانه رسالة باطنية موجهة الى تركيا بانها لم تعد تحظى بالأهمية الجيوسياسية للولايات المتحدة مثلما كانت في الماضي وهو ما يمثل قمة جبل الجليد في توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة كما انه مؤشراً جديدا على الرغبة الامريكية في اعادة مراجعة علاقاتها مع تركيا على نحو مختلف
في الحقيقة لم يكن بايدن يفي بوعد حملته الانتخابية أو يسعى لدخول التاريخ كأول رئيس في منصبه منذ رونالد ريغان يستخدم مصطلح الإبادة الجماعية في وصف عمليات القتل الجماعي ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى ولم يكن ايضا يستهدف إرضاء الكونغرس من الحزبين والمدافعين عن حقوق الإنسان والجالية الأرمينية في الولايات المتحدة فقط وإنما يريد قبل كل ذلك أن يبعث اشارة عدم اكتراث إلى نظام رجب طيب أردوغان وبرد فعله الذي لن يزيد على الإدانة والاستنكار والتنديد ( حسب زعمه )
وعلى الرغم من أن تركيا تشترك مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب وتلعب دوراً في محاولة حل الصراع المستمر في سوريا ومنع عودة تنظيم داعش فإن بايدن ومنذ توليه منصبه أبقى الرئيس التركي أردوغان بعيداً عنه حين أجرى عدة اتصالات بقادة وزعماء العالم الآخرين وترك نظيره التركي في الانتظار أشهراً عدة ما عكس حالة الجفاء والقطيعة في العلاقة بين الجانبين في ادنى المستويات من الإدارة وحينما قرر ب الاتصال به لأول مرة حمل بايدن أنباء غير سارة لأردوغان عن اعترافه بالإبادة الجماعية للأرمن في تحد واضح للرغبة التركية والضغوط التي مارستها أنقرة بطرق مختلفة بهدف منع الاعتراف الأميركي بالإبادة الجماعية للأرمن خلال السنوات الماضية
ومن المفيد ان نشير هنا بان العلاقات الامريكية التركي اخذت بالانحدار الكلي بعد الانقلاب الفاشل عام 2016 والذي حمل مسؤولية التخطيط له لرجل الدين التركي فتح الله غولن الذي يعيش في منفاه الاختياري بولاية بنسلفانيا الأميركية اضافة الى اعتقال بعص الاميركيين في تركيا ما دفع إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى فرض عقوبات مؤقتة ضد أنقرة قبل أن تتصاعد التوترات مع صفقة شراء تركيا لصواريخ أس 400 المضادة للطائرات من روسيا عام 2017
اضافة الى تسليم الأسلحة التركية إلى المناطق التي يسيطر عليها المتطرفون الإسلاميون في سوريا وسجن الصحافيين والقضاة والنشطاء الحقوقيين وتزايد الاستبداد واستخدام جماعات وكيلة في نزاعات مختلفة وتعاطف أردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي يثير بعض المخاوف في الغرب حسب النظرة الامريكية الحالية والتي ربما تكون جزء من سياسة و ضع السم في الدسم لتمرير غايات واهداف مجهولة
ومن اسباب الخلافات الاخرى دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد غالبيتها من أجل هزيمة تنظيم داعش والذين هاجمتهم تركيا واتهمتهم بالإرهاب وتهديد أمنها القومي
الرئيس أردوغان ينظر لبلاده التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة والعضو في مجموعة الـ20 وفي حلف الناتو على انها قوة إقليمية تستحق المزيد من الاحترام على المسرح العالمي وقد ظهرت وجهة نظره هذه في تدخلات تركيا العسكرية في سوريا وليبيا والعراق وأذربيجان وفي التنقيب عن الغاز والبترول في مياه شرق البحر المتوسط العام الماضي وهو يعتقد جازما بان الحلفاء الغربيين يحتاجون بشكل مستمر تركيا لمنع تدفق ملايين اللاجئين السوريين إلى أوروبا
اخير ربما يكون من دقيق الوصف القول بان الغرب الذي تتزعمه الولايات المتحدة يرى في غالبيته أن تركيا أصبحت ( دولة شريرة ) بشكل متزايد ولا تشارك الغرب سوى القليل من المصالح والقيم أو بعبارة أخرى أضحت تكاليف الشراكة معها أكثر بكثير من الفوائد منها وهذا ما يشي بان وراء الأكمة ما ورائها في خلفيات وحيثيات قرار الرئيس الامريكي جو بايدن باعترافه الأخير بالمذابح التي حصلت للأرمن بانها ابادة جماعية
mahdimubarak@gmail.com
.