جفرا نيوز -
جفرا نيوز- كتب محمد حسن التل
شكل اغتيال الشهيد وصفي التل منذ خمسين عاما لغزا كبيرا على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي ، حيث لم تعترف جهة واقعية محددة بمسؤوليتها عن هذه الجريمة ، رغم المسرحية الهزيلة التي قام بها البعض وعلى رأسهم الرجال الأربعه الذين لعبوا دور الكومبارس الصغير في هذه المسرحية للتغطية على القاتل الحقيقي كما يقول الأستاذ عدنان أبو عودة الوزير الأسبق ، حيث أن الشهيد قتلته رصاصة قناص جاءت من خارج الفندق وهو يهم بالدخول إليه بعد انتهاء اليوم الأول من فعاليات مؤتمر وزراء الدفاع العرب الذي كان يعقد في القاهرة آنذاك ، والذي كان الشهيد يحمل له مشروع عودة المقاومة إلى الواجهة مع إسرائيل لوضع الخطوة الأولى على طريق التحرير ، والذي قيل "أن هذا المشروع هو الذي قتله" ، حيث اخترقت تلك الرصاصة كتفه الأيسر من الأعلى وأصابت القلب وخرجت من صدره وهذا يؤكد على أن المجرمين الأربعة الذين كانوا في ردهة الفندق ما هم إلا للتغطية على الوقائع الحقيقية للجريمة ، كما أثبتت ذلك كل التقارير وفي مقدمتها تقارير السي آي إيه ، ولكن هذا لا يعفيهم هم ومن وراءهم من هذه الجريمة البشعة.
لقد كان هناك مصلحة كبرى لأكثر من جهة في المنطقة في غياب وصفي التل عن الساحة السياسية وذلك لأنه كان يحمل مشروعا حقيقيا لتحرير فلسطين ولم يؤمن يوما بقصة السلام مع اسرائيل ، وكان ينظر الى الصراع العربي الإسرائيلي صراع وجود ويعمل استراتيجيا على إنشاء جبهة عربية موحدة لمواجهة الصهيونية من خلال تحويل دول الطوق إلى قاعدة متينة لهذه الجبهة وإنشاء جيل يؤمن إيمانا عقائديا برفض الوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين ، وكان يؤمن أيضا بأن هذا الصراع لن ينتهي بما يسمى مفاوضات سلام بل سينتهي بانتصار العرب عسكريا وفكريا وثقافيا ، الأمر الذي جعله هدفا كبيرا لأصحاب فكرة القبول بوجود إسرائيل كأمر واقع سواء في المنطقة أو عند الدول الكبرى الداعمة لإسرائيل ، وعند قادة إسرائيل أنفسهم ، ولم يبال الشهيد بخطورة مشروعه واستمر به حتى آخر لحظات حياته .
آمن وصفي إيمانا حقيقيا بقوة الأردن وقدرته على أن يكون دولة مجابهة مع عدو الأمة من خلال إنشاء مؤسسات وطنية قادرة على جعل الأردنيين يعتمدون على أنفسهم في كل شيء متحررين من ضغوط الديون والمنح من الغير ، وكان مقتنعا تماما أن الأردن يجب أن يكون دولة زراعية من الدرجة الأولى لأنه يملك في هذا المجال إمكانيات ضخمة ، ولم يكتف وصفي بالحديث عن الزراعة فقط بل مارسها على أرض الواقع وأنشأ مشاريع وطنية عديدة لدعم هذا التوجه ، وكانت الأرض بالنسبة له وما تنتجه هي نفط الأردن ، وقصته مع السفير الأمريكي بخصوص تهديد الأخير له بأنه سيقطع إمدادات القمح عن الأردن معروفة للعموم ، وكان الشهيد عدوا حقيقيا للفساد وإهدار المال العام ، ويعلن انه سيقطع اليد التي تمتد إلى أموال الناس .
لهذا كله امتلك الشهيد شعبية عند الناس لم يمتلكها زعيم سياسي عبر التاريخ ، وذلك لأنه آمن بقدرة الأردني على العطاء والبناء وفتح له كل المجالات لإبراز قدراته المختلفة ، وكان مقتنعا أن الأردني في مقدمة العرب إنتماءا وقدرة وعطاءا مما جعله يسكن في قلوب الأردنيين وعقولهم حتى بعد رحيله بنصف قرن ، وهنا تكمن العبقرية في ذكرى الشهيد ، حيث أن كل الأجيال الموجودة الآن لا تعرف وصفي على الواقع لكنها قرأت عنه وسمعت به ودرست فكره فتعلقت به جيلا بعد جيل .
ما زال الأردنيون يؤمنون أن وصفي حاضرا فيهم بفكره ومشروعه..
لا شك أن الشهيد تعرض لظلم كبير في مواقفه المخلصه من فلسطين ، حيث حاولت جهات عديدة أن تشوه العلاقه بينه وبين فلسطين والفلسطينيين ، إلا أن التاريخ أثبت أن وصفي كان من أكثر الناس إخلاصا ووفاءا لقضية فلسطين وشعبها وقد قاتل على أرضها وجرح .. وظل يحمل جرحه في جسده حتى لقي وجه ربه ليكون شاهدا له على حب فلسطين .
إن وصفي التل من الشخصيات النادرة في العالم الذي ظل زعيما حتى بعد استشهاده بنصف قرن ، وما زالت الأجيال تبكيه وتنعاه كل يوم لأنه خرج منهم وعاش لهم ، وثأر وصفي لا يتحقق إلا بإحياء مشروعه من جديد في دولة الإنتاج والإنتماء لتراب الأردن انتماءا حقيقيا نابعا من الإيمان أن الأردن يجب أن يكون دولة قادرة لتكون قاعدة عربية قوية فكريا وسياسيا واقتصاديا تكون في مقدمة معركة تحرير الأمة .