جفرا نيوز -
بقلم: د. جاسم الغصاونه
في عام 1925، صاغ المهاتما غاندي رؤية أخلاقية خالدة تضمّنها ما أسماه "الخطايا الاجتماعية السبع"، محذرًا من تبعاتها على المجتمعات إن تُركت دون وعي أو محاسبة. وبينما كان يتحدث عن الهند في زمن الاستعمار، إلا أن ما طرحه يبدو اليوم أكثر راهنية في ظل ما يعيشه العالم من تحولات سريعة وتبدلات في القيم.
في واقعنا المعاصر، لم تعد الثروة ترتبط بالعمل كما في السابق. إذ يُلاحظ تنامي ظاهرة تحقيق الأرباح دون بذل جهد فعلي، من خلال المضاربات الرقمية والصفقات السريعة. ومع هذا الانفصال بين الكسب والإنتاج، تفقد القيمة الاقتصادية بعدها الإنساني، ويُرسّخ نمط من الحياة يُمجّد الثراء ويهمّش العمل الجاد، بما يعكس أولى الخطايا التي حذّر منها غاندي: الثروة بدون عمل.
وتنعكس هذه الظاهرة أيضًا على أسلوب الحياة، حيث بات الكثيرون يلهثون خلف المتعة دون إدراك لتبعاتها أو مسؤولياتها الأخلاقية. حين تُفصل المتعة عن الضمير، تصبح مجرد استهلاك لحظي قد يُبنى على ضرر الآخرين، سواء عبر استغلال الجسد، أو البيئة، أو حتى العلاقات الاجتماعية. وهنا تتجلى خطيئة أخرى من القائمة: المتعه بدون ضمير.
وإذا ما نظرنا إلى مسار التقدم العلمي، نُدرك أن الإنجازات لا تعني بالضرورة ارتقاءً أخلاقيًا. فقد استُخدمت الاكتشافات العلمية في تطوير أدوات الحرب والهيمنة، أو في تقنيات تعمّق الفجوة بين الطبقات. ومع غياب البعد الإنساني، يتحول العلم إلى خطر لا إلى أمل، تمامًا كما أشار غاندي في تحذيره من العلم بدون إنسانية.
ولعل ما يزيد هذه الأزمة تعقيدًا هو الكمّ الهائل من المعرفة المتاحة في العصر الرقمي، والتي لم تُقابل دائمًا بنضج داخلي أو التزام شخصي. فحين تُستخدم المعرفة لأغراض التضليل أو المكاسب الشخصية دون أخلاق أو ضمير، تصبح بلا قيمة حقيقية. وقد نبّه غاندي إلى خطورة هذا المنحى حين قال إن من أخطر ما يهدد الإنسان هو المعرفة بدون شخصية.
وما ينطبق على الفرد، ينعكس أيضًا على المجال العام، حيث تراجعت السياسة من كونها وسيلة لتحقيق المبادئ إلى ساحة تُدار بالمصالح الضيقة والمواقف المتقلّبة. حين تفقد السياسة جوهرها القيمي، تتآكل الثقة، وتتحول الشعارات إلى واجهة لتسويات آنية. وقد سمّى غاندي هذا الانحدار باسم واضح: السياسة بدون مبادئ.
أما على الصعيد الاقتصادي، فالتجارة باتت في كثير من الحالات تفتقر إلى البعد الأخلاقي، وتُمارَس وفق منطق الربح الأقصى حتى لو كان على حساب العدالة الاجتماعية أو البيئة أو حقوق العمال. في مثل هذا المناخ، تظهر بوضوح خطيئة التجارة بدون أخلاق، وهي إحدى أبرز مظاهر الاضطراب القيمي في الأسواق المعاصرة.
وفي ختام هذه السلسلة، يقف غاندي عند مسألة تمسّ جوهر العلاقة بين الإنسان وربّه، محذرًا من العبادة بدون تضحية. فالعبادات إذا ما تحولت إلى طقوس شكلية لا تغيّر في سلوك الإنسان، ولا تحفّزه على البذل والعطاء، تصبح خالية من معناها، وتفقد أثرها في إصلاح النفس والمجتمع.
ما طرحه غاندي قبل قرن من الزمان ليس مجرد قائمة تأملية، بل منظومة مترابطة من المبادئ الأخلاقية. وإذا تأملنا واقعنا اليوم، نجد أن معظم هذه الخطايا تتسلل إلى تفاصيل حياتنا المعاصرة بشكل أو بآخر. لذلك، فإن العودة إلى هذه المبادئ ليست مجرد استذكار لرمز تاريخي، بل دعوة لإعادة التوازن بين القيم والفعل، بين الأخلاق والممارسة، في زمن بات فيه الانفصال بين الشكل والجوهر من أبرز معضلات الإنسان.