لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد رهان مستقبلي، بل تحوّل إلى واقع حتمي يتداخل مع أدق تفاصيل الحياة اليومية، وعلى رأسها المنظومة التعليمية ،فأدوات معرفية متقدمة مثل ChatGPT لم تأت فقط لتجيب عن الأسئلة، بل لتعيد تشكيل بنية التفكير نفسها، وتحرّر المعرفة من قوالبها التقليدية، وتفتح أمام المتعلّم آفاقًا لا تُحدّ بجدران الصفوف ولا تُقيّد بضيق المناهج.
في الأردن، حيث ما زالت منظومة التعليم تواجه تحديات جسيمة – تتراوح بين محدودية الموارد، وتباطؤ تحديث المناهج، وضعف البنية الرقمية – يبرز الذكاء الاصطناعي ليس كتقنية مكمّلة، بل كنافذة وفرصة تاريخية لإعادة هندسة العملية التعليمية برمّتها. إنه ليس ترفًا رقميًا، بل ضرورة استراتيجية تمسّ جوهر التنمية البشرية.
إن دخول أدوات الذكاء الاصطناعي إلى وعي الطلبة والمعلمين على حدٍ سواء، يمثّل لحظة تحول نوعي: من التعلم القائم على التلقين والتكرار، إلى نماذج تعليمية تعتمد على التحليل، والتفكير النقدي والتجريب، والابتكار.
إنها انطلاقة جوهرية نحو الانتقال من الأساليب التقليدية العقيمة إلى بيئة معرفية متعددة المسارات، تُراعي الفروقات الفردية، وتُعزز استقلالية المتعلّم.
هذه الأدوات تمنح الطالب قدرة غير مسبوقة للوصول إلى محتوى تفاعلي، فوري، متجدد، مرن يراعي الاختلاف بين الطلبة كل حسب مستوى فهمه واهتماماته.
غير أن هذه الثورة المعرفية تطرح سؤالًا ملحًا: كيف يحافظ المعلم التقليدي على دوره التربوي وسط هذا التدفق الهائل من المعرفة؟ الجواب لا يكمن في مقاومة التغيير، بل في التكيّف الواعي معه، وتطوير الذات، والتحوّل من ناقل للمعرفة إلى موجّه ومسؤول عن تنمية التفكير النقدي والوعي الرقمي.
في هذا السياق، يُصبح من غير الممكن إحداث تحول حقيقي دون دور مركزي وفعّال من قبل الحكومة، ووزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي، ومجالس البحث العلمي. إذ يقع على عاتق هذه المؤسسات مسؤولية الانتقال من سياسة الاستجابة إلى سياسة المبادرة. ومن أبرز أدوارها المطلوبة:
إعادة صياغة المناهج لتكون أكثر تفاعلية، وتدمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي والبرمجة والمهارات الرقمية منذ المراحل المبكرة.
والعمل على تأهيل المعلمين وتدريبهم لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ليس كأدوات شرح، بل كمساحات تفاعلية للتعلم. ويجب تحفيز البحث العلمي وتوجيه رسائل الماجستير والدكتوراه نحو تطوير أدوات تعليمية ذكية تراعي اللغة العربية والخصوصية الثقافية للمجتمع.
ان تعزيز التعاون مع شركات التكنولوجيا لتطوير منصات تعليمية ذكية، وتمويل مبادرات رقمية تعليمية تخدم القطاع، ورغم
ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من وعود بزيادة العدالة التعليمية وتوسيع فرص التعلم، إلا أن التحدي الأكبر يظلّ في الإنسان نفسه: هل نُخرّج جيلًا من المستخدمين السلبيين لهذه الأدوات، أم نُنشئ مفكرين ناقدين، قادرين على تحليل ما يُقدّم لهم، وتمييز النافع من الضار، والمعلومة من الدعاية.
هنا يبرز دور منظومة التربية لا كناقل معرفي، بل كمُشكّل للوعي والضمير العلمي، القادر على تمكين الجيل الرقمي من التعامل مع الذكاء الاصطناعي كامتداد لعقله، لا كبديل عنه.
ان دمج الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس خيارًا مؤجلًا، بل ضرورة مُلحة فالأردن ، بما يملكه من ثروة بشرية شابة، ومؤسسات أكاديمية راسخة، وقطاع تكنولوجي ناشئ، قادر ليس فقط على استيعاب هذه الثورة، بل على المساهمة في تطويعها وتعريبها وتصدير نماذج تعليمية متقدمة تتلاءم مع خصائصه المجتمعية.
إن مستقبل التعليم لن يُبنى بالأدوات وحدها، بل بالإرادة السياسية، والرؤية المؤسسية، والإيمان بأن الاستثمار في عقل الإنسان، هو الاستثمار الأصدق في مستقبل الوطن.