في النظم الأبوية أو الرعوية، بصرف النظر إن كانت عادلة أم ظالمة، حرة أم قمعية، اضطر القطاع العام إلى مواكبة حاجات الجمهور.
بعيدا عن عقلية «ما تطلبه الجماهير»، وبضغط الحاجة وبحكم المصلحة، نما القطاع العمومي إلى حد التضخم فالترهل، فأسس للحشرات والقوارض قسما لمكافحتها في وزارات الصحة، كما أسس قسما لمكافحة الأوبئة والأمراض السارية. البلديات كذلك قامت بعضها بتخصيص أقسام للتصدي لظاهرة الكلاب الضالة رغم أنف ادعياء حماية البيئة وإن كان الثمن نهشا للناس وإقلاقا لراحتهم وحقهم في النوم والذهاب في الصباح الباكر إلى المدرسة والمسجد بأمان!
كذلك فعلت وزارات الداخلية وأجهزة الأمن والشرطة في العالم، عندما بالغ تجار الموت في جراءتهم على العرف والقانون ومن قبل مخافة الله سبحانه، بالغوا في ترويج فتهريب فتصنيع السموم من وراء الحدود، متسللين لا عبر تلك الحدود بل عبر عملاء جهارا نهارا لهم من داخلها، فيمن لا تصح فيهم فقط تسمية الطابور الخامس بل ما هو أحطّ وأكثر خسة.
ولأهمية الكلمة والمعلومة والسردية صحت أم كذبت، فطنت أجهزة الاستخبارات في العالم منذ عقود بعيدة، وتنبّهت إلى خطورة الإشاعة وكارثية التعرض لهوية الوطن وقيم المجتمع ومعنويات الناس، وبالتالي المزاج والرأي العام الذي في أحسن حالاته قد يعبر عن نفسه باستطلاع أو إحصائية أو حتى بحث أو دراسة «أكاديمية» يساء استخدامها أو توظيفها ضد المشاركين بها أنفسهم. شياطين الثورات الملونة والفوضويات الهدامة الدامية ما تسللوا كالهسهس والبعوض والقرّاد والجراد إلى ساحة إلا وتركوها أثرا بعد عين، ولنا فيما جرى من حولنا في الإقليم والعالم الكثير من الدروس والعبر التي قد لا يجوز الصبر عليها بعد أن طفح الكيل..
المكافحة ليست مديرية في وزارة ولا قسما في جهاز، المكافحة في الأصل فردية مجتمعية، روحية أخلاقية، أمنية قانوية، إعلامية سياسية. كلها دوائر متصلة ببعضها بعضا أي ضعف في إحداها سيؤثر على السلسلة كلها.
ليست بحاجة تلك الحملات الإعلامية المشينة التي تستهدف الأردن وكل ما هو أردني إلى سين وجيم، ف «ميمها» سافرة وإن تقنّعت، ساقطة و»عينها» مكسورة وإن لفها الضباب! ليست تلك الحملات القميئة في جزيرة معزولة ولا هي معروفة بعواجلها ولا بمنشوراتها «بوستاتها» منذ فضائح ويكيليكس المجلجلة. الروائح تزكم الأنوف، فضحتها مواقيت الإساءات التي تكاد لم تخرج عن ثلاثة: استباقية، استدراكية أو مواكبة. كلما تحدث العالم عن نجاح لسيدنا عبدالله الثاني وقيادتنا الهاشمية ومملكتنا وأردننا المفدى، ترى أذرع أو ذيول الأشرار تتحرك بإيقاع ما أسهل تتبع حوالات أطرافها البنكية وتراسلاتهم النصية. بلغ الأمر حد تلقيم الجالس على صنبور البث المباشر بما يقدمه من محتوى مسيء، بصرف النظر عن نسبة السم في الدسم، هذا إن وجد في جعبة الحاوي الذي ارتزق بلعبة البيضة والحجر دسما أو دهنا، ولو تمسحوا بكل جوائز الصحافة الحرة والنزيهة والإعلام الخنفشاري الذي ما نفخ في كير حرب أو ما تسميها الغرف السوداء ثورة أو مقاومة أو جهادا أو تحريرا إلا وكانت العواقب لا سقوط نظام فحسب ولا الدولة فقط بل الوطن كله..
من الآخر، الأمل معقود بغضبة راشدة فيها ما يلزم من المحبة والحكمة والقوة، لاقتلاع الشر من جذوره، ومن ثم تجريف وتحريق المراتع والأوكار أيا كانت، وكل بالطريقة المناسبة.
مع التقدير والعرفان لكل جهد يبذل فيما يخص الرد والتفنيد، فإنه في المحصلة جهد له من الطاقة والوقت الذي ندّخره لما هو أهم. تصدى الكثير من الكتاب والمحللين الوطنيين الوازنين للمسألة بكل اقتدار من على هذا المنبر الكريم وصحافتنا وشاشاتنا الوطنية وعبر قنوات شقيقة أثبتت أنها معنا دائما، لكن تلك الشرذمة المسيئة في هذا التوقيت تحديدا، وفي قضية إغاثة أهلنا الأحبة في غزة هاشم، تجاوزت الكثير من الخطوط الحمر. لدينا سوابق كيف تعاملت دول شقيقة وصديقة مع حملات الافتراء والتحريض، وفي الصندوق كما يقال الكثير من الأدوات الكفيلة بالتعامل مع كل أداة، لكن العلة دائما في الممول ومن قبل في النفوس المريضة، في الكائنات الساقطة التي ارتضت لنفسها العمالة مدعية المهنية والوطنية والتدين والعفة! الرد الذي ينتظره كثيرون ببالغ الشوق وعظيم الرجاء، هو أن يتم الضرب بقوة.. لا واحدة مقابلة الأخرى، بمعنى هذه مقابل تلك، بل بحل إجرائي شامل متكامل يتحدث عن نفسه بصوت أعلى من أي بيان.
الوضع الداخلي والإقليمي لا ترف فيه للانتظار نصف قرن حتى ينتظر أحدهم شهادة أي شخص أو جهة كانت على أن قيادتنا عُرفت عبر التاريخ بسموها وترفّعها عن الخلافات والملاسنات وصغائر الأمور. من غير المنصف ولا المجدي أبدا أن يتصرف المكلفون قيادة حملات المكافحات وفقا لقاعدة «الناس على دين ملوكهم»، فمن تأتينا الإساءة منهم لا يفهمون إلا لغة أخرى.
مثال واحد ليس ببعيد عن الموضوع، يتجلى في تعميم شقيق صدر لطلبة في أمريكا بالتقيد بالدراسة والابتعاد عن السياسة واحترام قوانين البلاد، في الوقت الذي تحرض قنوات ذلك الشقيق المُعَمِّم وشبكاته العنكبوتية على النقيض تماما. في بلاد العم سام توجد جهات مهنية وأخرى قانونية وحتى برامج تلفزيونية ترصد كيف تقوم بعض القنوات بالتغطية المغرضة، فتقارن بين تعاملها مع حدث داخلي و خارجي كأخبار فيضانات الشتاء مثلا، أو كيفية تغطية الموضوع نفسه كالتظاهر أو المسيرات الصاخبة والعنيفة في بلدين، أو وهذه الفضيحة كيف يتباين الخط التحريري وفقا للغة البث وموضوع التغطية وموقع البث والساحة المراد استهدافها!
هؤلاء الأشقياء في أي عاصمة كتبوا أو بثوا أو غردوا ليسوا «إعلاما» حتى يكون الرد عليهم بوسائل الإعلام والتواصل، إنهم أدوات بعضها احترافي لمطابخ تملك خلطات معروفة مكوناتها وطباخها «المسبّك» الذي يطبخ السم ولا يذوقه، كما تجار الموت من طبّاخي السموم المسماة المخدرات.
الرد المنشود من المأمول ألا يرى خيالا ولا ظلالا، بل يكون حاسما صارما في التعامل كما ينبغي مع الأشياء المتوارية خلف الأضواء أو ابتساماتها الصفراء..