يسارع السامع بالقول إلى المتحدث بأن «صحّ لسانك» إن أتى الكلام بما يطرب وليس بالضرورة ما يصلح الحال. بعض القول يثير عاصفة من الأفكار والمشاعر لا تهدأ إلا عندما يصح المنطق ويستقيم بنيانه فتكمل نتائجه مقدماته.
أيا كانت القضية مثار الجدل في الفضاء العام وبأي لغة كانت ما زال الإنسان هو الإنسان لم يتغير. من تراب إلى تراب تحكم حياته وما بعد الممات بضعتين، قلب ومن فوقه دماغ. لا يرفع القلم إلا إن ضاع ذلك الأخير -العقل- ذلك الذي عرف به الإنسان وتميز به عن سائر المخلوقات. الإنسان «حيوان عاقل» ليست سبة، هي توكيد للحياة، وتشديد على أن من أسبابها واستمرارها وصلاحها وفلاحها هو العقل. ما جانب علماء الانثروبولوجيا والاجتماع الحقيقة عندما عرف ذلك الحيوان العاقل بالكائن الاجتماعي. لا قيمة حتى للنابغة إن كان علمه مكتوما أو حصير دائرة مغلقة من المحظيين حتى وإن كانوا على أسس معرفية أو معيارية أخلاقية. لا بد للخير كما النهر أن يكون جاريا بين الناس، وفي الميادين كافة، حتى تتحقق الغاية من وجودنا كبشر وهي إعمار الأرض.
في عالم اليوم، المقبل حثيثا نحو خلاصه أو دماره، ثمة من ثبت اعوجاج منطقهم، وإن صح كلامهم من الناحية النظرية. هم كأهل بيزنطة في سفسطتهم، وأهل سبارطة في تلاومهم وتناحرهم حتى الاندحار، فالاندثار. تعمدت الإشارة إلى أمثلة غير عربية وغير إسلامية وغير شرق أوسطية حتى لا يتم استدراج السجال وروح الشقاق إلى متاهات فرعية أو زقاق جانبي.
كما في علم التشريح، لا تكتمل الآداء الكلي والنهائي إن اعتل أو اختل أي عضو في جسم الإنسان مهما بدا جزئيا أو هامشيا. لن يصح النطق في حال وجود عيوب في الفكين أو الأسنان وإن كان اللسان طلقا فصيحا، سيبق «أقرطا» أو يعاني لدغة تنال من هيبة المتحدث، لا حديثه فقط. فما بالك إن زاد الأمر خلل بنيوي وظيفي أيضا بالجهاز التنفسي العلوي، تحديدا المنخرين حينها قد يصل الأمر إلى «الخَنَف» وذلك العيب الخَلْقِيّ -بعيدا عن التنمر المدان شكلا ومضمونا- قد يصل إلى تشويه المعنى بالكامل، فيصير التفاعل بين السامع والمتحدث والمشاهد، كحوار الطرشان!
من الرياضات التي تم الترويج لها في السنوات الأخيرة، خاصة في الدول المتقدمة تكنولوجيا والتي تعاني تفككا أسريا واجتماعيا، رياضات عقلية وألعاب تحفز الذاكرة والخيال والروح المعنوية أيضا. كما في الصحة الفميّة، صحة الأسنان تحديدا، استخدمت صورة التنظيف بالخيط ولكن للدماغ كعضو، وبالتالي للعقل والضمير كنتائج مرتبة على ما سمي «مِنْتِلْ فْلَسِنْغْ» بمعنى تنظيف الدماغ بالخيط! تلك الرياضة -الصيانة- عبارة عن مجموعة من التمارين والألعاب كالكلمات المتقاطعة و»سُدوكو». إن كانت شرايين القلب بحاجة للتنظيف وقاية مما قد يسبب تصلبا أو جلطة، فكذلك شعيرات الدماغ وخلاياه الدقيقة، بحاجة إلى تفادي التكلس والتخلص من تراكمات الماضي غير الصحية، بجميع أنواعها. وتلك مسؤولية المعنيين بقطاع الصحة بشكل عام، خاصة الصحة النفسية والعقلية التي للأسف لا تحظى بالاهتمام الكافي، والأهم الصحة الروحية التي يحز بالنفس إنها غائبة أو مغيبة تماما تحت ستار التعصب والتطرف.
أردت بهذه المقالة الاستراحة من أخبار المخططات الإرهابية ودعاتها وداعميها من المتسترين بالكلام المنمق الذي ما زال يفضح «تقية» وانتهازية ووصولية أولئك الذين يدسون السم بالدسم. بعض المتحدثين في تلك القضية وغيرها من خارج الحدود، مما يقولون ما لا يفعلون، وأولئك «كبروا مقتا عند الله» في الأديان والمذاهب والطوائف كلها. حتى الحضارات القديمة وما كان يسمى جاهلية أو الجاهلية الأولى، لم تستخف بعقول الناس كما يصر البعض على الإتيان به، دون مخافة الله ومراعاة أمضى سلاح كرمنا به سبحانه، ألا وهو الروح، بمعنى المنطق..
ما بين الفكين، أخطر مما تسمعه الأذنان وتراه العينان. للأسف فتحت إساءة استغلال بعض حريات التعبير «صندوق باندورا» أمام أبعد الناس عن احترام الحريات وإدراك حرمات الحقوق والواجبات. من لا يعترف أصلا بمفهوم الوطن ولا يفهم ما هي الدولة بكل أقانيمها، ويستهدف قولا وعملا هويتها وأركانها، من الأولى له وبه أن يصمت، كونه ما قال خيرا قط! وبيننا أرشيفهم هم لا أرشيفنا فقط. ما بين الفكين إما منجاة وإما مقتلة. فالكلمة تحيي وتميت..