جفرا نيوز -
رشاد ابو داود
لم يبق مكان جرى ذكره في أخبار سوريا هذه الأيام الا سكنته أو زرته. من ادلب الى درعا
مروراً باللاذقية وحلب و حماة وحمص. أما دمشق فقد سكنت أغلب أحيائها و حاراتها، من الست زينب الى ركن الدين الى المزرعة الى المهاجرين الى ابو رمانة الى أزقة الميدان وساروجة وكفر سوسة.
لم أكن سائحاً بل طالباً في جامعتها. أما سبب تنقلي من مكان الى مكان فكان الهدف توفير أجرة ثلاثة شهور العطلة الصيفية. فقد كنا كطلبة نستأجر شققاً مفروشة وأحياناً بيوتاً أرضية قديمة لم تزل رائحتها منقوشة في ذاكرتي. وعند ترك البيت لا تحتاج الى حمل ثلاجة أو غسالة أو سرير أو عفش.
كل ما عليك حمله شنطة الجلد الرخيصة وكيس ترتب فيه باكيت برازق وصفت ناشد و بعض المنحوتات الخشبية والنحاسية التي كانت تباع في سوق الحميدية. هدايا للأهل فقط « من
ريحة الشام «.
درعا كانت أول مدينة سورية يتوقف فيها القطار بعد صعودنا اليه من مدينتنا الزرقاء. لم نكن نشعر بفرق بين درعا و الرمثا. لا في اللباس ولا في في الاسواق و لا حتى في اللهجة الحورانية الرجولية المميزة. ساعة استراحة ننزل فيها قريباً من المحطة نتجول و نتناول الغداء. أذكر اننا، نشأت مطر و قاسم الجغبير وأنا دخلنا مطعماً. تناولنا الغداء وخرجنا.
بعد أن ابتعدنا مسافة قصيرة. اكتشفت أنني نسيت حقيبة جلد صغيرة أضع فيها أشياء مهمة. وهي في الحقيقة ليست مهمة، قلم و دفتر، مشط للشعر الطويل آنذاك قبل أن يتصحر رأسي، كتاب وما شابه. ولسوء حظي كان من بين تلك الأشياء أوراق من السفارة الأردنية بدمشق تثبت أنني فقدت جواز سفري وورقة تسمح لي بالدخول لاستخراج جواز جديد.
نزل قاسم من القطار الذي كان يمشي ببطء. وقال لنا اذهبوا انتم و سألحق بكم قبل أن تدخلوا الحدود. وبالفعل وصل في الوقت المناسب ومعه الشنطة الملعونة.
سألناه : ماذا حصل معك ؟
قال : لاشيء. دخلت المطعم. نظرت الى الطاولة التي تغدينا عليها. وجدت الشنطة جالسة مكانها. نظرت اليها وكأنها تمد لسانها لي و تضحك عليَ. لم يسألني صاحب المطعم عما أريد، فلم يكن مر سوى بضع دقائق على خروجنا وكانت بقايا الطعام ما تزال مبعثرة على الطاولة.
كانت درعا مدينة طيبة تعمل و تتعب و تكظم غيظها في مزروعات الخضروات وحقول القمح. لم نكن نعلم أنها ستطلق شرارة الغضب في 2011 لتنتشر النار في أنحاء سوريا.
صيدنايا زرتها في رحلة جامعية. بلدة صغيرة كأنها قطعة تاريخية محفورة في جبل، بيوتها من الصخر كنجمات معلقة في سقف السماء. في منتصف الجبل دير قديم من قرون مضت. كله من الصخور، أرضيته، ممراته، ما عدا طيبة ساكنيه من الراهبات و الرهبان الذين استقبلونا بفرح طفولي وهم يحكوا لنا تاريخ هذا الدير الذي أقام فيه أحد تلامذة السيد المسيح عليه السلام. لا أجمل من رائحة التاريخ عندما تمتزج ببخور الصلوات.
في ذلك الوقت كنا طلاباً ولم نكن نعلم أن صيدنايا التي تعرف بديرها ستعرف لاحقاً.. بسجنها الرهيب.
زيارة أخرى أخذتنا الى اللاذقية خاصة بحرها المتوسطي المفتوح على العالم. تجولنا في شوارعها و محلاتها وجمالها الطبيعي. وبالقرب منها زرنا جزيرة طرطوس لنشاهد لأول مرة في حياتنا بيوتاً و أسواقاً في قطعة أرض جارها البحر من كل الجهات.
لم نكن نعلم أنه سيقام قريباً من اللاذقية لاحقاً قاعدة «حميميم» الروسية.
أربع سنوات عشناها في سوريا كطلبة عرب نعامل معاملة السوري، ندخل و نحرج بدون فيزا. لكن كانت تحدث أمور لم نكن نعلم بها. دول تدخلت وأمور تراكمت، خيوط تشابكت، مصالح دول تضاربت. شعب ثلثه تهجر وبعضه تعذب الى أن تفجر الغضب.
لا يهم من يحكم، المهم أن تبقى الشام..شامة على خد العرب !
المهم ان لا تُقسّم سوريا ولا تُقتسم.