جفرا نيوز -
بشار جرار
لعل من الأخطاء الدارجة القابلة للتصويب، الخلط بين المواقف وتقدير الموقف. الناس أحرار في الأولى كونها حمّالة أوجه، قابلة للأخذ والرد، أما الثانية فيتساوى فيها الحكماء كونها مسألة ينبغي أن تبقى علمية موضوعية محايدة، وقابلة للمراجعة لا تحديثا بل قياسا واستنباطا، استنادا إلى حوادث قد لا يعي أهميتها كثيرون واستشرافا للأحداث التي لا يراها إلا الخاصة من أهل المعرفة والحكمة والخبرة.
للأسف، ساهمت الصحافة الجديدة «نيو ميديا» في تكريس ما وقع به بعض الصحفيين الناشطين أو الآيدولوجيين، انطلاقا من أن صاحب القلم لا بد أن يكون له موقف من كل ما يعني الشأن العام. طرح الشأن الخاص من على منبر عمومي من الأمور الممجوجة، ما لم تكن هناك حاجة ودلالة تجعل من ذلك الخاص شأنا ذا دلالة من المفيد تعميمها خدمة للناس.
لما تحظى به مواقف المثقف من أهمية خاصة في لحظات فاصلة أو قضايا حساسة، ثمة واجب أخلاقي إضافي، وهو ألّا تتسرب مواقف حتى كاتب مقال الرأي إلى المحتوى الذي يساهم في صنعه إن كان الأمر متعلقا بما يعرف في مراكز الأبحاث أو ما شابه بتقارير «تقدير موقف». طبعا ثمة مستويات متباينة من المهنية في كتابة تلك التقارير كونها متدرجة في المسافة المسموح بها لإبقاء ذلك «البرزخ « أو «حائط النار» الذي يحول بين التقدير الرغائبي للموقف وبين الحقيقة المجردة لما تبدو عليه عناصر تقدير الموقف.
ساهمت فضائيات ومنصات المواقف المسبقة أو بالأحرى المعلّبة، بتعزيز تلك الهوة بينها وبين القدرة على تقدير الموقف في كثير من أزمات وحروب الشرق الأوسط الأمر الذي أسقط مصداقية وأحيانا هيبة كثير من «الخبراء» الذين يقدمون على أنهم ممن كشف عنهم الحجاب حتى تأتي الأحداث بما يرفع عنهم الغطاء بعد سحب البساط ممن صفّقوا وصفّروا، طبّلوا وزمّروا لذلك البطل الموعود أو المنتظر!
ما يجري منذ «هدنة عيد الشكر» في لبنان وانتظارا لما وعد به الرئيس جو بايدن فيما يخص غزة قبل تنصيب خلفه وسلفه دونالد ترامب، يشير إلى أن تقدير الموقف ينبغي أن يقرأ بداية -وبصرف النظر عن الموقف من سوريا نظاما وتنظميات وحلفاء وأعداء- ينبغي أن يقرأ وفقا لثلاثة محددات هي في تقديري حرب السابع من اكتوبر، حرب أوكرانيا، وتصورات إدارتي بايدن وترامب لها. انظر ماذا التقطت الصحافة السبت مثلا على وقع أخبار حلب وإدلب وحماه، الكلام كان عن كتاب بيد بايدن عن «فلسطين» ومنشور على «ترووث سوشال» يتوعد فيه بريكس بتعرفة نسبتها 100% إن استغنت عن الدولار! القصد أن «البطة العرجاء» ليست عاجزة عن إتمام الواجب. الواجب الذي يتجاوز الحزبين الجمهوري والديموقراطي والإدارات المتعاقبة في مؤسسات الدولة السيادية أو العميقة كما يصر ترامب على تسميتها.
ما يجري في إقليم الشرق الأوسط برمته، إنضاج لثمار أتى أوان جنيها بعد زراعة أشتال لها في «الربيع العربي» اللعين وبذور هجينة تم بذارها في سنوات «الفوضى الخلّاقة» الهدامة..
القضية ليست محصورة بالتوقيت، حتى التغطية الإعلامية والتمهيد الدبلوماسي منذ أشهر، فيها تشاب ه كثير مع ما جرى في المشاهد الأولية لما سمي «طوفان الأقصى» بل وحتى تلك المشاهد التي صدمت العالم ما قبل انهيار نظام صدام وما قبل سقوط الموصل ومن بعدها الرقه.
مازالت الذهنية نفسها التي تشغلها مقاطع الفيديو التي يتم فتح تغطيات المباشرة لها وتركيب برامج «حوارية» عليها و»مانشيتات» ما كان يعرف في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ب «الفرقعة الإعلامية»، حتى تتضح معالم المشهد الحقيقية خلافا لتقديرات المؤدلجين للموقف.
ربما الموقف الوحيد الذي يعنينا هو ما يعني كل ما يجري من حولنا، بالنسبة لسيادتنا وأمننا وأماننا. مواقفنا بقيادة سيدنا عبدالله الثاني أثبتت الأيام صدقيتها وحكمتها، وهي مواقف
ثابتة في استنادها إلى المبادئ، مُعلَنة على رؤوس الأشهاد عبر مئوية ونيّف، في رفض القمع والاستباد والفساد والإرهاب من أي نظام أو تنظيم في العالم. وهذه الأخيرة، لا فرق فيها بين إرهاب على أسس سياسية أو دينية أو مخدرات. لا يوجد في تقدير الموقف على الساحة السورية الآن قطعيّ الوضوح إلا ما يعنينا في الصميم، وهو استرداد دول المنطقة كافة لأمنها، كون الأمن كل لا يتجزّأ، والحكيم من يهتم بأمر جواره كما يهتم بداره، لكنه قطعا يُبقي أهل الدار هم الأولوية وفي الصدارة، حيث لا مجال، لا لمتاجرة أي كان، ولا لمقامرة أحد، ولا للمزاودة التي شهدنا على مدى عام ونيّف ومن قبلها زهاء ثلاثة أرباع قرن، نتائجها الكارثية.