جفرا نيوز -
بشار جرار
ليس هذا مقام الخوض في تفاصيل الشأن الأمريكي أو الانتخابي أو الحزبي، لكن اختيار الرئيس السابق الناجي للتو من الاغتيال، شابا يودع العقد الثالث من عمره في الثاني من الشهر المقبل، يعني الكثير بالنسبة لشكل السنوات الأربع المقبلة، لما قد تكون الولاية الثانية والأخيرة للرئيس دونالد ترامب.
مهارة الاختيار كانت موضع أخذ ورد في إدارته السابقة ومن مؤشراتها كثرة الاستقالات (الإقالات) والانقلاب عليه والتخلي عنه والذي وصل في نظر مؤيديه إلى ما وصل حد الخيانة العلنية. كان الأمر متوقعا كونه من خارج مجتمع واشنطن العاصمة ومن خارج «المؤسسة» أيضا، سيما وأنه قد بنى شهرته كرجل أعمال وإعلام من خلال آليات الفرز، الاختيار، التعيين والفصل. من الحالات التي خلفت مرارة علاقته بوزير الدفاع جيم ماتيس ومستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير العدل بيل (ويليام) بار وما كاد أي يكون نائبه في الرئاسة أو وزير الخارجية المرشح الرئاسي السابق والسيناتور ميت رومني فضلا عن نيكي هيلي التي كانت تزاحمه في الترشيح وقد اختارها سفيرة لأمريكا في الأمم المتحدة.
المعيار الأهم هو الاختيار ليس بالنسبة لترامب وحده وإنما لكثيرين في القطاعين العام والخاص هو الكفاءة. لا شيء غيرها، طبعا بعد الانتماء والولاء فدونهما لا قيمة لشيء، بل على العكس تماما. فاقدهما قد يكون أخطر من ألد أعداء الوطن أو المؤسسة أو الشركة أيا كان المراد في أي نشاط إنساني يتطلب فريق عمل، يتوقف النجاح على اختيار أعضاء الفريق والأهم من يقوده.
في الثقافة الأمريكية ثمة قاسم مشترك بين القائد والرئيس والمدير والزعيم والكبير، ضرورة ولاء الجميع له وعدم مزاحمته أو التحول إلى عبء عليه أو خطرا على مهمته أو صورته، ما دام يقود بالمثال، ويضع نفسه فداء وخدمة لمن يرعى قبل أن يقود.
في المقابل لا مجال للشخصنة في اتخاذ القرارات وإن كانت العلاقات الشخصية «المهنية» من الأسباب الوازنة في عمليات صنع واتخاذ القرار. الثقل هنا للمعرفة والخبرة والإجابة على السؤالين الأكثر أهمية في أي اعتبارات أخرى تمثيلية. الأول هو دائما وأولا: الانتماء والولاء. القادة لا يحبون الغادرين ولا فاقدي القدرة على اتخاذ موقف، حتى وإن كان مخالفا أو مكلفا لبعض الوقت أو دائما. الاعتبار الثاني هو الإجابة على سؤال جوهري هو ماذا يقدمه الشخص المختار للمهمة وللفريق؟ بعدها تأتي كيف سيراه جمهورنا وجمهور الآخر (داخليا) وأمريكا والعالم، خاصة الحلفاء والأعداء.
اختيار ترامب لجيمس ديفيد فانس المعروف اختصارا ب «جيه دي» ترك مشاعر قوية إزاء من تعنيهم قضايا عديدة داخليا وخارجيا داخل الكونغرس أهمها أوكرانيا والشرق الأوسط، فهو من أشد معارضي الحروب الخارجية. اختيار ترامب لم يأبه بالولايات المتأرجحة ولا بالتمثيل الجندري أو العرقي، حيث قام باستبعاد آخر دائرة ترشيحات من أربعة منافسين وفضّل «جيه دي» على أقوى منافسيه حاكم ولاية فيرجينيا الجمهوري، غلين يانكين والتي صارت زرقاء منذ عهد باراك حسين أوباما وسيستردها على الأرجح ترامب في الخامس من نوفمبر.
ما قد يكون نائبا للرئيس، وربما رئيسا بعد أربع سنوات، درس القانون في جامعة ييل المرموقة. عاش طفولة مؤلمة فاجعة. من وديان ولاية أوهايو صعد الأعالي في عالم القانون والأعمال والسياسة. علا وسطع نجمه، واختارته ولاية أوهايو عضوا يمثلها في مجلس الشيوخ الأمريكي. كفلته وأخته الوحيدة جدته وجده، بعد أن تخلى والده عن أمه وعن أسرته، فيما ابتليت والدته بجحيم المخدرات. نار التجارب القاسية صقلته رجلا أخرجت أفضل ما فيه، معتدا بنفسه مقداما، فتطوع للخدمة العسكرية بعد ثلاث سنوات من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وخدم كضابط مارينز وساهم في تدريب القوات العراقية. وهي سابقة أن يتسنم مارينز وبينهم العديد من النواب والشيوخ، هذا المنصب الرفيع -الأول بعد الرئيس، القائد الأع لى للقوات المسلحة.
هاجم «جيه دي» ترامب وحذر من أنه قد يكون «هتلر أمريكا» وهالته شعبويته إلى حد اعتبارها ضربا من ال «هيروين» الاجتماعي. عرف بعدها ترامب عن قرب، تحول من مجموعة «ضد ترامب» إلى أشد أنصاره من مؤيدي «ماغا» اختصارا لشعار ترامب الانتخابي 2016 «لنجعل أمريكا عظيمة مجددا». دعمه للفوز كسيناتور، شيئا فشيئا تغير كل شيء وصار من أشد مؤيديه. بادر فكان أول من قام بالتعبير عن موقفه بجرأة وحزم إزاء من اعتبرهم مسؤولين عن خطاب الكراهية والتحريض الذي أفضى إلى محاولة الاغتيال الآثمة الفاشلة السبت الماضي.
عوضا عن حصر الاختيار بالمعايير التقليدية كالمناطقية أو الجهوية، رأى ترامب ما يراه الناس مصدر إلهام، وهو أهم مما يمثل الناخبين بالاسم أو الدلالة، اختار من يرى كثيرون شبها إما في الظروف، وإما في التعامل مع تلك التجارب والآلام التي تجرعها في طفولته وصباه وشبابه.
واحد من الناس، واحد يشبهنا، هذا ما يصبو إليه الناس في أي انتخابات في العالم ولا علاقة للأمر لا باتجاه سياسي ولا بخلفية أيدولوجية. ما عاد مقبولا في عالم لا يرحم في التنافسية، والبقاء فيه للأصلح وللأكثر قدرة على التكيّف، ما عاد مقبولا ولا معذورا التحجج بالظروف القاهرة. ما من أحد محصّن من التجارب أو المحن أو البلايا (الابتلاءات) وهي وحدها من تصنع الرجال والأوطان. الفقر والمرض وبلايا الدنيا كلها قد تكون الحافز الأكبر والأكثر ديمومة على النجاح والمثابرة.
«جيه دي» لم يشعر بالعار ولا الحرج من معاناته، وتلك من مزايا بلاد العم سام الحميدة حيث حقا «لا تزر وازرة وزر أخرى».
كتب «دي جي» قصة حياته «هيلبيلي إيليجي» المرثية أو الندبة في حياة المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس، والتي صارت فيلما عرضته منصة «نيتفليكس» كرس لأزمة الطبقة العاملة البيضاء في أمريكا. قد يكون من المفيد مشاهدته خاصة لمن اكتوى أو عرف أسرة اكتوت بجحيم التفكك الأسري أو الإدمان أو البطالة أو الفقر المدقع، أو ما هو أشد، البؤس الحقيقي المعرف شرعا بالفاقة.. يشار إلى أن جيه دي فانس من طائفة مسيحية غير طائفة ترامب (بريسبيتيريان- المشيخيّة والتي تركها وصار مسيحيا لا يتبع لأي طائفة أثناء توليه الرئاسة، في ثاني حالة من نوعها منذ عهد الرئيس الراحل دوايت آيزنهاور الذي تعمّد بعد عشرة أيام من تنصيبه في الكنيسة المشيخية، وهو من أضاف عبارة «تحت الله» في قسم الولاء الأمريكي الذي يحاول اليسار المتطرف شطبه من القسم بذريعة «الصوابية السياسية»). جيه دي هو من طائفة الرئيس جو بايدن، كاثوليكي منذ عام 2019 فيما كان النائب السابق لترامب من المسيحيين الإنجيليين التي ما زالت من أهم قواعده الانتخابية.
أكثر ما ترك أثرا في نفس جيه دي الذي يراهن ترامب على مساعدته في استقطاب ناخبي ولايات متأرجحة، فيما يعرف بمناطق «حزام الصدأ» وهي ولايات شمال شرق ووسط غرب أمريكا، هو أن ترامب اختار ابنه الأكبر (سبع سنين) ليبلغه هاتفيا أن أباه سيصبح نائبا للرئيس. رسالة ببضع كلمات تعني ثلاثة أجيال..