جفرا نيوز -
بقلم: د. عامر بني عامر
للوهلة الأولى، قد يبدو السؤال بسيطًا: هل تغيّر خطاب الإسلاميين في البرلمان أم لا؟
النقد ما زال حاضرًا، والملفات الاقتصادية الثقيلة ما زالت في الصدارة، وحدّة اللغة لم تختفِ. لكن من يتابع عن قرب خطابات النواب الإسلاميين في نقاشات الموازنة لعامي 2024 و2025، يلاحظ فرقًا لا يمكن تجاهله.
ليس فرقًا في العناوين، بل في الطريقة. ليس في ما يُقال، بل في الإطار الذي يُقال فيه.
خلال نقاشات موازنة 2024، كان الخطاب في كثير من الأحيان مباشرًا، عالي النبرة، وأحيانًا مكشوفًا لغويًا. كان النقد يُقال ثم يُترك، والجملة الأخيرة لا تُغلق شيئًا، واللغة لا تحسب دومًا كلفتها السياسية. كان الصوت عاليًا، لكن ضبطه محدودًا.
في موازنة 2025، تغيّر هذا السلوك بشكل ملحوظ.
النقد بقي، بل أصبح أكثر تفصيلًا في بعض الأحيان. لكن الخطاب لم يعد يترك نفسه بلا حماية. اللغة أصبحت أكثر انتقاءً، والخواتيم أكثر وعيًا، والفصل بين الدولة والحكومة أكثر وضوحًا.
اللافت في هذا التحوّل هو استحضار الدولة ومرجعياتها العليا بوصفها إطارًا ناظمًا للكلام.
الدولة لم تعد تُذكر عرضًا، بل تُستحضر ككيان يجب تحصينه قبل أو بعد النقد.
المؤسسات السيادية تُذكر باعتبارها خارج الخلاف السياسي، والملك يظهر كمرجعية جامعة، لا كطرف في السجال ولا كموضوع للمزايدة.
هذا الاستحضار لا يبدو عفويًا.
هو جزء من إعادة ضبط العلاقة مع المجال العام، ومحاولة واضحة للقول إن النقد موجّه للسياسات والحكومات، لا للدولة ولا لأسسها.
السؤال هنا ليس إن كان الإسلاميون قد أصبحوا أقرب إلى الدولة.
السؤال الأدق هو: هل تغيّرت طريقتهم في الحديث عنها؟
المتابعة المقارنة لخطابات الموازنة في عامين متتاليين تُظهر أن هذا التغيّر ليس حادثة فردية، ولا محصورًا بنائب أو اثنين. هو سلوك يتكرر، ويتقارب بين أكثر من متحدث، ما يشير إلى وعي جماعي بأن اللغة نفسها أصبحت عنصرًا سياسيًا لا يقل أهمية عن الموقف.
لكن هذا يفتح بابًا أوسع للتساؤل.
إذا كان هذا التطور قد ظهر بوضوح في الخطاب البرلماني، فهل سيبقى محصورًا هناك؟ أم أننا أمام بداية تحوّل أوسع داخل الحزب نفسه، وفي المؤسسات القريبة منه، وفي الخطاب الذي يُنتج لجمهوره وقواعده، وخصوصًا لدى الجيل السياسي الجديد الذي يتشكّل وعيه الآن؟
وهنا يبرز تساؤل إضافي لا يمكن تجاهله: هل جاء هذا التحوّل في وقته المناسب، أم بعد فوات لحظة كان يمكن أن يكون تأثيره فيها أعمق؟
الخطاب البرلماني هو الواجهة الأكثر انضباطًا بطبيعتها. لكن السياسة لا تُصنع في القاعة وحدها.
تُصنع أيضًا في التنظيم، وفي الإعلام الحزبي، وفي اللغة التي تُقال خارج الأضواء.
من هنا، يصبح السؤال أكثر أهمية: هل ما نراه اليوم هو تكيّف ظرفي مع لحظة سياسية محددة؟ أم بداية مسار أعمق يعيد تعريف العلاقة بين التيار والدولة، ليس فقط في البرلمان، بل في الثقافة السياسية الداخلية؟
ثم هناك سؤال آخر لا يقل حساسية: هل هذا التغيّر، مهما كان واضحًا، كافٍ؟
كافٍ للبقاء في المشهد السياسي؟ ربما.
كافٍ لتقليل المخاطر ورفع قابلية الاحتواء؟ إلى حد كبير.
لكن هل هو كافٍ ليُترجم إلى لغة واحدة، من القيادة البرلمانية إلى القواعد، ومن الخطاب الرسمي إلى وعي النشء الجديد داخل التيار؟ الإجابة ستتضح من سلوك التيار نفسه في المرحلة المقبلة.
في السياسة، لا يكفي أن تتغيّر اللغة في الأعلى إذا بقيت مختلفة في الأسفل.
التحوّل الحقيقي لا يُقاس فقط بما يُقال تحت القبة، بل بمدى قدرته على الاستمرار والانتقال.
ما تُظهره المقارنة بين خطابي 2024 و2025 هو أن الإسلاميين البرلمانيين لم يغيّروا مواقفهم، لكنهم غيّروا طريقة إدارتها لغويًا.
انتقلوا من خطاب أكثر انكشافًا إلى خطاب أكثر انضباطًا، دون أن يتخلّوا عن النقد.
ختامًا، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل هذا التحوّل مؤقت أم مستدام؟ وهل سيتبعه تغيير أعمق في الحزب ومحيطه؟
ما هو مؤكّد أن الخطاب لم يعد كما كان، وأن الجملة الأخيرة أصبحت محسوبة أكثر من أي وقت مضى.
وفي السياسة، هذا بحد ذاته تغيير يستحق التوقف عنده.